الحمد لله رب العالمين، عز جاهه، وجل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، من توكل عليه كفاه، ومن لجأ إليه آواه، ومن سأله أعطاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وقدوة المتوكلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
إنني أسأل نفسي بإلحاح في هذه الأيام العجاف: هل يشعر العرب بأن محمدًا مرسل للعالمين، وأن هذه (العالمية) في دعوته تفرض عليهم بعد إذ عرفوه أن يعرِّفوا الناس به، وهم عندما يعرِّفون الناس به لن يصفوا لهم ملامحه الشخصية، وإنما يشرحون لهم رسالته الإلهية! لكن عرب اليوم لا يقدِّرون محمدًا قدره، ولا يخلفونه بأمانة في مبادئه وتعاليمه، ولا يحسون قبح الشبهات التي أثارها خصومه ضده بل هم – علمًا وعملًا – مصدر متاعب للإسلام ولنبيه الكريم، وشاهد زور يجعل الحكم عليه لا له!
قد تقول: حسبك حسبك؛ إن الناس بخير، ومحبتهم لرسولهم فوق التهم فلا تطلق هذه الصيحات الساخطة، فما تحب الجماهير أحدًا كما يحب أتباع محمد محمدًا.
وأقول لك: سوف أغمض العين عن ألوف من المتعلمين ضلل الاستعمار الثقافي سعيهم، وشوَّه بصائرهم وأذواقهم، مع أن وزنهم ثقيل في قيادة الأمة العربية، فما قيمة الحب الرخيص الذي تكنه جماهير الدهماء؟
إنه حبٌّ غايته صلوات تفلت من الشفتين، مصحوبة بعواطف حارة أو باردة، وقلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير، والترجمة عن حبِّ محمد بهذا الأسلوب، في وقت يُنهب فيه تراثه- أمر مرفوض، إن لم يكن ضربًا من النفاق! أذكر أني ذهبت يومًا لأحد التجار كي أصلح شيئًا لي، فاحتفى بي وقدم بعض الأشربة، وأفهمني أنه أتمَّ ما أُريد بعد أن وفَّيته ما أراد. ثم شعرت أن عمله كان ناقصًا، ولا أقول مغشوشًا!
فقلت: ليته ما حيَّا ولا رحَّب، وأدَّى ما عليه بصدق! ماذا أستفيد من تحيات لا جدَّ معها ولا إخلاص. والشأن كذلك مع أقوام قد تموج أحفال المولد النبوي بهم، أو قد يصرخون بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعقاب الأذان، أو قد يؤلِّفون صلوات من عند أنفسهم، يحار المرء في تراكيبها لإغراقها في الخيال. وقد يكون حبهم تمسكًا شديدًا ببعض النوافل، وهروبًا تامًّا من بعض الفرائض، أو حنانًا لا ندى معه ولا عطاء، كهذا الذي قال له الشاعر:
لا أُلفينَّك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما قدمت لي زادًا
أيُّ حبٍّ هذا… إنَّ العرب لا يعرفون أيَّ شرف كُتِب لجنسهم ولغتهم وأمسهم وغدهم عندما ابتعث الله محمدًا منهم، وإنَّ التقدير الحقَّ لهذا الشرف لا يكون بالسلوك المستغرب الذي يواقعونه الآن، ومنذ بدؤوا يعبثون برسالة الله بينهم. لما أراد ربُّ العزة أن يعلن بركته النامية ورحمته الهامية اختار في كتابه العزيز عبارتين مبينتين:
الأولى:تتحدث عن البركة في مظهر القدرة التي تجمع أزمة الكون في يده، فيستحيل أن يُغلب يومًا على أمره، أو يشركه أحد في ملكه، وفي هذا المعنى يقول جلَّ شأنه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[تبارك: 1].
والثانية:تتحدث عن البركة في صورة الرجل الذي حمل هداه الأخير إلى عباده، وتفجرت ينابيع الحكمة من بيانه وسيرته، فكان القرآن الذي يتلوه مشرقَ شعاعٍ لا ينطفي، يهتدي على سناه أهل القارات الخمس ما بقي الليل والنهار. وفي هذا المعنى يقول جل شأنه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان: 1].
إن الإنسان المبعوث رحمة للعالمين أشعل الأمة التي ظهر في ربوعها، فانطلقت لأول مرة من بدء الخليقة تحمل للناس الخير والعدل، واستطاعت أن تؤدب جبابرة الأرض الذين عاثوا في أرجائها فسادًا، وظنوا أنَّ كبرياءهم لن يخدشها أحد!
حتى جاء الرجال الذين رباهم محمد فقوَّموا صَعَر المعتدين، وأعزُّوا جانب المستضعفين، وكم تحتاج الدنيا في يوم الناس هذا إلى هذا الطراز من الرجال؛ ليحموا الحقَّ الذليل، وينقذوا التوحيد المهان، ويقروا الأخوة الإنسانية المنكورة، وينزلوا البِيض إلى منزلة السُّود، أو يرفعوا السُّود إلى منزلة البِيض.
لكن السقطة الرهيبة للعرب المعاصرين أنهم ذاهلون عن المكانة التي منحهم محمد إياها، هابطون عن المستوى الذي شدَّهم إليه، وفيهم من يفتح فمه ليقول: إنَّ العرب يمكن أن يكونوا شيئًا من غير محمد!! قبَّح الله وجهك مِن قائل أفَّاك..
ومِن أيامٍ جاءني نفر من العامة متنازعون على إدارة مسجد: بعضهم يريد أن يقول في الأذان: (أشهد أن “سيدنا” محمدًا رسول الله).
والآخر يريد الاكتفاء بالوارد فلا يذكر لفظ: (سيدنا) لأنه مبتدع. ونظرت إلى أعراض المرض الذي يفتك بالأمة المعتلة
وقلت لهم: إنَّ محترفي الإفك من المبشرين والمستشرقين ملؤوا أقطار العالم بالافتراء على محمد صلى الله عليه و سلم وشخصه ودينه، ورسموا له صورة مشوَّهة في أذهان الكثيرين، وأنتم هنا لا تزالون في هذا الغباء.
ما أشقى دينًا أنتم أتباعه، إنَّ المسلمين بين ما ورثوا من جهل، وما نضح عليهم من ضلال العصر لا يزالون يهرفون بما لا يعرفون. إنَّ حبَّ محمد صلى الله عليه و سلم يوم يكون لقبًا يضفيه عليه الكسالى الواهنون، فهو حبٌّ لا وزن له، ولا أثر! ويوم يكون أحفالًا رسمية وشعبية بيوم ميلاده، فهو حبٌّ لا وزن له ولا أثر! ويوم يكون قراءة للكتاب المنزل عليه في مواكب الموت ومجالس العزاء، فهو حبٌّ لا وزن له ولا أثر، ويوم يكون ادِّعاءً تستر به الشهوات الكامنة الطباع الغلاظ، فهو حبٌّ لا وزن له ولا أثر.. لأن محمدًا صلى الله عليه و سلم هو الرسول الذي رسم للبشر طريق التسامي الحقيقي، ورسم للجماعات طريق التلاقي على الحقائق والفضائل، فدينه عقل يأبى الخرافة، وقلب يعلو على الأهواء.ماذا كسب المسلمون عندما حوَّلوا الدين من موضوع إلى شكل؟ وماذا كسب العرب عندما شقُّوا طريقهم إلى المستقبل، وهم يطوون اسم محمد صلى الله عليه و سلم وتراثه عن نشاطه السياسي والعسكري؟
ولو نظرت إلى هذه الألوف المؤلفة من الكنائس والمعابد، لوجدت داخلها أجهزة منظمة دوارة، تعمل من غير ملل؛ لصرف الناس عن الإسلام، ونسبة أقبح النعوت إلى نبيه المبرأ الشريف.. وكأنَّ الله تبارك اسمه شاء أن يعرِّف هذه الأمم مدى ما كانت فيه من غباوة، وأن يذيقها شيئًا من مرارة الجريمة التي ارتكبتها، فهو في ساحة العرض الشامل لأصناف الخلائق يحشر سكان القارات الخمس على مرِّ القرون، يحشرهم في صعيد واحد، ثم يكشف الغطاء عن عيونهم وآذانهم يتبينون فداحة جهلهم بالله الكبير المتعال، ويتبينون شناعة خصامهم لإمام رسله..
وهنا يموج بعضهم في بعض، ويضطربون في حيرة مفزعة لا يُرجى منها خلاص، وتتحرك جموعهم إلى كلِّ نبيٍّ سمعوا باسمه في العالم الذي انتهى، يناشدونه أن يسأل الله لهم الرحمة، ولكنَّ النبيين كلَّهم يرفضون التصدِّي لهذا المطلب، ويعود أهل القارات الخمس متراكضين إلى الرجل الذي طالما قيل لهم: إنَّه كذاب. إنهم يحسون الآن عن يقين أنهم أخطؤوا في قِّهمه، وأنهم يوم صدُّوا عنه كانوا يخسرون أنفسهم وأهليهم…!. الشفاعة العظمى في رأيي موقف يحاكم فيه التاريخ البشري كلُّه؛ ليعترف أنَّ انصرافه عن الإسلام كان مشاقَّة لله، وعداء لأحب أوليائه وأصدق دعاته.. وما أعجب أن تجد الإنسانية نفسها في حرج يوشك أن يقضي عليها، ثم تعلم فجأة أن التنفيس عن كرباتها ربما تمَّ باللجوء إلى الرجل الذي عاشت دهورًا، وهي تروي عنه الأكاذيب، وتنسب إليه الأساطير.
والتجاء أهل الأرض إلى محمد صلى الله عليه و سلم في هذه الساعة العصيبة، ولجوؤه إلى الله يطلب مغفرته لعبيده الأغرار، ذلك في ظني هو المقام المحمود، المقام الذي نسأله لمحمد صلى الله عليه و سلم عقب كلِّ أذان يتردد صداه في مهاب الريح، ليستجيب له قوم، وينصرف عنه آخرون:(اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت “محمدًا” الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته).
قلت:إنَّ محمدًا صلى الله عليه و سلم في عالم العقائد والحقائق شمس وضَّاحة نفَّاحة، لكن العميان كثيرون، وقد مكث هذا الرسول النبيل يصدع بأمر الله، وينقذ الناس من أهوائهم ومظالمهم، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى تاركًا فينا تراثه الجليل من كتاب وسنة، فليتعلم الدعاة من حياة سيد الدعاة أن أجر الحقِّ المبذول لا يعجل في الدنيا، وأن للمقام المحمود موعدًا في غير هذه الدار يتعلَّق به وحده الدعاة الأبرار.
ألف شكر للأخت المبدعة Tayseer على تصميمها فواصل الموضوع
أخيرا أتمنى أن تستفدوا من هذا الموضوع و أتمنى لكم التوفيق وجزاه الله خيرا كل من ساهم في نشر هذا الموضوع
فإن أخطـأت فهو مني ومن الشيطان و إن أصبت فهو توفيق من الله تعالى
————————————
اختيار موقع الدرر السنية:www.dorar.net
المصدر: كتاب (قذائف الحق) للشيخ محمد الغزالي – دار القلم، دمشق، الطبعة الأولي 1411هـ . ص 238.