عُمَرْ المُختار [رَجُــلٌ بــِـــــأمَّـــــــة][1]
ملاحظة هامة: إخواني الكرام هذا الموضوع ليس مني بل من صديقي العزيز أبو عبد الله { رحمه الله} الذي وافته المنية يوم أمس أي يوم الجمعة بتاريخ: 20/4/2012 لذا أتمنى منكم بأن تدعو له بالمغرة و أن يصبر أهله و أن تنشرو هذا الموضوع في كل المنتديات التي تعرفونها ليكون صدقة جارية له بإذن الله تعالى و ينتفع بها المؤمنون و المسلمون في كل بقاع الأرض
للعلم لديه مواضيع كثيرة سأقوم بنشرها قريبا
عمر المختار رمز البطولة والفداء التي سطرها التاريخ لملحمة حددت معالم وهوية الشعب العربي..
هذا البطل الذي كشفت رمزيته عن هوية الشعب الليبي العظيم..
هذا الشعب الذي قدم الكثير من الأبطال على مدى العصور والعهود..
إلا أنه عندما قدم ( عمر المختار) رمزا للجهاد كان نموذجا يحتذى به واسطورة قلما وجد في طيات الزمن مثيلها ..
أشهر شيوخه
إخلاصه في العمل و العلم
العلوم التي برع فيها
أوصاف عمر المختار
عبادته لربه
صفات عمر المختار
عمر المختار شيخا لزاوية القصور
عمر المختار ضد الإستعمار الفرنسي
عمر المختار ضد البريطانيين
الشيخ عمر المختار في معاركه الأولى ضد إيطاليا
محاولة الإيطاليين إخماد جهاد المختار ضدهم
معركة بئر الغبي
الجبل الأخضر بؤرة للجهاد
8 أعوام معارك ضد مع الايطاليين
الاستيلاء على برقة
الإيطاليين والإستيلاء على فزان
عزلة المختار
معركة أم الشافتير (عقيرة الدم)
المفاوضات بين المختار والطليان
النداء الأخير
تعيين الجنرال غراسياني
سياسة غراسياني للقضاء على عمر المختار وأتباعه
عمر المختار يغير استراتيجية الحرب
استشهاد الفضيل بوعمر
الطليان ودليل الوصول إلى عمر المختار
عقوبة من يساعد الثوار
احتلال الكفرة
نماذج لأفعال المحتل الايطالي في ليبيا
الأيام الأخيرة من حياة المختار
إصرار على الجهاد حتى آخر رمق:
الاسد يقع اسيراً
دخول المختار في سجن بنغازي
مواقف العزة داخل السجن
عمر المختار أمام غراسياني السفاح
محاكمة عمر المختار
قالوا عن عمر المختار
الدروس المستفادة من سيرته
تصميم الفواصل والبنر:
mohbaboo
جزاه الله خيرا
…………………………………
المساعدة في تدقيق الموضوع:
aboalwleed
جزاه الله خيرا
…………………………………
ولد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862م وقيل 1858م.
كان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر
نشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم الحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي.
ذاق عمر المختار – رحمه الله – مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه الملئ بالإيمان وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها.
ظهر منه نبوغ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين.
مكث المختار في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه، والحديث والتفسير.
شهدوا لعمر بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحبه للدعوة.
كان مخلصاً في عمله متفانياً في أداء ما عليه ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجل عمل يومه إلى غده وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر.
لفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعاً، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من خلال.
كان على معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها.
تعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات.
أصبح خبيرا بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل.
كان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو ـ وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة.
كان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه.
كان عمر المختار متوسط القامة يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ.
كان أجش الصوت بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لا يمل حديثه، متزن في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف.
كان كثيف اللحية وقد أعفاها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن.
كان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام.
كان قد ألزم نفسه بسنة الضحى.
كان محافظاً على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة، ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف إنني قابلت أحداً من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم.
كان هذا العبد الصالح يهتم بزاده الروحي اليومي بتلاوة القرآن الكريم، وقيام الليل واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.
المجاهد محمود الجهمي (حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيراً) قال: (لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين او ثلاثاً على أكثر تقدير، ويبقى صاحياً يتلو القرآن الكريم، وغالباً ما يتناول الإبريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل ويعود الى تلاوة القرآن ، لقد كان على خلق عظيم يتميز بميزات التقوى والورع، ويتحلى بصفات المجاهدين الأبرار).
الأستاذ محمد الطيب الأشهب قال: (وقد عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذ المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته والى جانبه وأهم ماكنت امقته منه رحمه الله وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لا يتركنا أن ننام إذ يقضي كل ليلة يتلو القرآن ويقوم مبكراً فيأمرنا بالوضوء بالرغم عما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر، وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف ببرده الأبيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده من خشية العزيز الرحيم. قال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور} سورة فاطر).
من أهم ما اتصف به المختار: الأمانة والشجاعة، والصدق،والكرم ، ومحاربة الظلم والقهر والخنوع .
صفة الشجاعة ظهرت في شخصية عمر المختار المتميزة في جهاده في تشاد ضد فرنسا، وفي ليبيا ضد ايطاليا ويحفظ لنا التاريخ هذه الرسالة التي أرسلها عمر المختار رداً على رسالة من الشارف الغرياني الذي أكرهته ايطاليا ليتوسط لها في الصلح مع عمر المختار وإيقاف الحرب، قال بعد البسملة والصلاة على رسول الله:
إلى أخينا سيدي الشارف بن أحمد الغرياني حفظه الله وهداه، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومغفرته ومرضاته. نعلمكم أن إيطاليا إذا أرادت أن تبحث معنا في أي موضوع تعتقد أنه يهمها ويهمنا فما عليها إلا أن تتصل بصاحب الأمر ومولاه سيدي السيد محمد إدريس ابن السيد محمد المهدي ابن السيد محمد السنوسي رضي الله عنهم جميعاً، فهو الذي يستطيع قبول البحث معهم أو رفضه، وأنتم لا تجهلون هذا بل وتعرفون إذا شئتم أكثر من هذا ومكان سيدي إدريس في مصر معروف عندكم وأما أنا وبقية الإخوان المجاهدين لا نزيد عن كوننا جند من جنوده لا نعصي له أمراً ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن لا يقدر علينا مخالفته فنقع فيما لا نريد الوقوع فيه.. حفظنا الله وإياكم من الزلل..
نحن لا حاجة عندنا إلا مقاتلة أعداء الله والوطن وأعدائنا وليس لنا من الأمر شيء إذا ما أمرنا سيدنا وولى نعمتنا رضي الله عنه ونفعنا به بوقف القتال نوقفه وإذا لم يأمرنا بذلك فنحن واقفون عند ما أمرنا به ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس المكسرين (هؤلاء الآخرين هم المجندون من بعض الليبيين) ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار وبخوا به الزروع النابتة في الأرض نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون، ونحن لا نريد لكم ما يدفعكم إليه النصارى وظننا بكم خير. والله يوفقنا ويهدينا وإياكم إلى سبل الرشاد وإلى خدمة المسلمين ورضاء سيدنا رضي الله عنه وسلام الإسلام على من تبع الإسلام.
إن صفة الشجاعة ظهرت في سيرة عمر المختار منذ شبابه الباكر، ففي عام 1894م تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى السودان، وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار تتأهب للسفر إلى السودان، فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من السودان قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق: “إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره ومن العادة – إلا في القليل النادر- يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيراً كما يترك الإنسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام، واقترح أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للأسد عند خروجه”. ولكن رفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الأتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت فكيف يصح لنا أن نعيد أعطاءها للحيوان إنها علامة الهوان والمذلة. إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا) وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: “أنني أخجل عندما أعود وأقول أنني تركت بعيراً إلى حيوان اعترض طريقي وأنا على استعداد لحماية ما معي وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها” . ثم ما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر فقال أحد التجار وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك: “أنا مستعد أتنازل عن بعير من بعائري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد” فانبرى عمر المختار ببندقيته ورمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته ولكن في غير مقتل واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل فكان له ما أرد.
سأل الأستاذ محمد الطيب الأشهب عمر المختار نفسه عن هذه الحادثة في معسكر المغاربة بخيمة السيد محمد الفائدي عن هذه الواقعة فأجاب جوابا يدل على تأثره العميق بالقرآن الكريم قائلا: “تريدني يا ولدي أن أفتخر بقتل صيد قال لي ما قاله قديماً أحد الأعراب لمنافسه وقد قتل أسداً (أتفتخر عليّ بأنك قتلت حشرة) وامتنع عمر المختار بقول الله تعالى : {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}} ”
إن عمر المختار كان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاوة الغلبة بعد ما تخلص من الأسد الأسطورة وأزاح الظلم وقهر التعدي بل نسب الفضل إلى خالقه ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} سورة الانفال} الآية 17
تفوق عمر المختار على اقرانه بصفات عدة منها: متانة الخلق، ورجاحة العقل، وحب الدعوة، ووصل أمره الى الزعيم الثاني للحركة السنوسية محمد المهدي السنوسي فقدمه على غيره واصطحبه معه في رحلته الشهيرة من الجغبوب الى الكفرة عام 1895م.
في عام 1897م أصدر محمد المهدي قراراً بتعيين عمر المختار شيخاً لزاوية القصور بالجبل الأخضر، وقام عمر المختار بأعباء المهمة خير قيام، فعلمّ الناس أمور دينهم، وساهم في فض النزعات بين القبائل وعمل على جمع كلمتهم وسعى في مصالحهم ، وسار في الناس سيرة حميدة، فظهر في شخصيته أخلاق الدعاة من حلم وتأني، وصبر، ورفق، وعلم ، وزهد.
تجدر الاشارة الى أن وقوع الاختيار عليه للقيام بأمور هذه الزاوية كان مقصوداً من قبل قيادة الحركة السنوسية حيث أن هذه الزاوية كانت في ارض قبيلة العبيد التي عرفت بقوة الشكيمة، وشدة المراس، فوفقه الله في سياسة هذه القبيلة ، ونجح في قيادتها بفضل الله وبما أودع الله فيه من صفات قيادية من حكمة وعلم وحلم وصبر واخلاص.
كانت الفترة التي قضاها في زاوية القصور تدلنا وتشهد لنا على أعماله الجليلة ؛ كداعية رباني يدعو الى الاسلام ونشره بالفكرة والاقناع والارشاد التوجيه، فهو قمة شامخة في هذا المجال، فهو لم يدخل مجال الدعوة والارشاد إلا بعد أن تعلم من أمور دينه الكثير، فشق طريق الدعوة بزاد علمي، وثقافة متميزة، وتفوق روحي، ورجاحة عقل، وقوة حجة ورحابة صدر، وسماحة نفس لقد كان حريصاً على تعلم العلم والعمل به وتعليمه.
عندما زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في تشاد، نظمت الحركة السنوسية نفسها وأعدت للجهاد عدتها، واختارت من القادة من هم أولى بهذا العمل الجليل، فكان عمر المختار من ضمنهم فقارع الاستعمار الفرنسي مع كتائب الحركة السنوسية المجاهدة في تشاد وبذل مافي وسعه حتى لفت الانظار الى حزمه وعزمه وفراسته وبعد نظره وحسن قيادته فقال عنه محمد المهدي السنوسي: (لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا).
بقي عمر المختار في تشاد يعمل على نشر الاسلام ودعوة الناس وتربيتهم الى جانب جهاده ضد فرنسا، فحمل الكتاب الذي يهدي بيد والسيف الذي يحمي باليد الاخرى، وظهرت منه شجاعة وبطولة وبسالة نادرة في الدفاع عن ديار المسلمين، وكانت المناطق التي يتولى أمرها أمنع من عرين الاسد، ولا يخفى مافي ذلك من ادراك القيادي المسلم لواجبه تجاه دينه وعقيدته وأمته.
في عام 1906م رجع عمر المختار بأمر من القيادة السنوسية الى الجبل الاخضر ليستأنف عمله في زاوية القصور، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فقد بدأت المعارك الضارية بين الحركة السنوسية والبريطانيين في منطقة البردى ومساعد والسلوم على الحدود الليبية المصرية.
شهد عام 1908م أشد المعارك ضراوة وانتهت بضم السلوم الى الأراضي المصرية تحت ضغوط بريطانيا على الدولة العثمانية، وعاد الشيخ عمر المختار الى زاوية القصور وبرزت شخصيته بين زملائه مشايخ الزوايا، وبين شيوخ وأعيان القبائل، ولدى الدوائر الحكومية العثمانية، وظهرت مقدرته في مهمته الجديدة بصورة تلفت النظر، وأصبح متميزاً في حزمه في ادارة الزاوية وفي تعاونه مع زملائه الآخرين وفي معالجته للمشاكل القبلية، وفي ميدان الاصلاح العام مضرباً للامثال.
عندما اندلعت الحرب الليبية الايطالية عام 1911م كان عمر المختار وقتها بواحة (جالو) خفّ مسرعاً الى زاوية (القصور) وامر بتجنيد كل من كان صالحا ًللجهاد من قبيلة العبيد التابعة لزواية (القصور) ، فاستجابوا نداءه، واحضروا لوازمهم، وحضر أكثر من ألف مقاتل، وكان عيد الاضحى من نفس السنة الهجرية على الأبواب أي لم يبق عنه إلا ثلاثة أيام فقط، ولم ينتظر السيد عمر المختار عند أهله حتى يشاركهم فرحة العيد، فتحرك بجنوده وقضوا يوم العيد في الطريق وكانت الذبائح التي اكل المجاهدين من لحومها يوم العيد من السيد عمر المختار شخصياً.
وصل المجاهدون وعلى راسهم عمر المختار وبرفقته احمد العيساوي الى موقع بنينه حيث معسكر المجاهدين الذي فرح بقدوم نجدة عمر المختار ورفقائه ثم شرعوا يهاجمون العدو ليلاً ونهاراً وكانت غنائمهم من العدو تفوق الحصر.
يذكر الشيخ محمد الأخضر العيساوي بأنه كان قريباً من عمر المختار في معركة السلاوي عام 1911م فوصف لنا بعض احداث تلك المعركة فقال: (وقد فاجأنا العدو فقابله من المجاهدين الخيالة، بينما كان العدو يضربنا بمدافعه الرشاشة واضطررنا للنزول في مكان منخفض مزروعاً بالشعير وكانت السنابل تتطاير بفعل الرصاص المنهمر، فكأنها تحصد بالمناجل، وبينما نحن كذلك إذ رأينا مكاناً منخفضاً أكثر من المكان الذي نحن فيه، وأردنا أن يأوى إليه السيد عمر المختار بسبب خوفنا عليه فرفض بشدة حتى جاءه احد أتباعه يدعى السيد الأمين ودفعه بقوة الى المكان الذي اخترناه لايوائه وحاول الخروج منه فمنعناه بصورة جماعية…).
أكد عمر المختار هذا الاتصال وهو في مصر لما سئل عن ذلك وقال: “ثقوا أنني لم أكن لقمة طائبة يسهل بلعها على من يريد، ومهما حاول أحد أن يغير من عقيدتي ورأي واتجاهي، فإن الله سيخيبه، ومن (طياح سعد) إيطاليا ورسلها هو جهلها بالحقيقة. وأنا لم اكن من الجاهلين والموتورين فادعي أنني أقدر أعمل شيئاً في برقة، ولست من المغرورين الذين يركبون رؤسهم ويدعون أنهم يستطيعون أن ينصحوا الأهالي بالاستسلام، انني أعيذ نفسي من أن أكون في يوم من الايام مطية للعدو وأذنابه فأدعوا الأهالي بعدم الحرب ضد الطليان، وإذا لاسمح الله قدّر عليّ بأن أكون موتوراً فإن اهل برقة لايطيعون لي امراً يتعلق بإلقاء السلاح إنني أعرف أن قيمتي في بلادي إذا ماكانت لي قيمة أنا وأمثالي فأنها مستمدة من السنوسية”
استمرت عروض الايطاليين على عمر المختار حتى بعد رجوعه للبلاد وحاولوا استمالته بالمال الطائل، والمناصب الرفيعة ، والجاه العريض في ظل حياة رغيدة ناعمة ولكنهم لم يفلحوا.
عندما خرج السيد عمر المختار من مصر قاصداً برقة لمواصلة الجهاد اجتمع به مشايخ قبيلته الموجودون بمصر من المتقدمين في السن وحاولوا أن يثنوه عن عزمه بدعوى أنه قد بلغ من الكبر عتيا وان الراحة والهدوء ألزم له من أي شيء آخر وأن باستطاعة السنوسية أن تجد قائداً غيره لتزعم حركة الجهاد في برقة، فغضب عمر المختار غضباً شديداً وكان جوابه قاطعاً فاصلاً فقال لمحدثيه: (إن كل من يقول لي هذا الكلام لا يريد خيراً لي لأن ما أسير فيه إنما هو طريق خير ولا ينبغي لأحد أن ينهاني عن سلوكها، وكل من يحاول ذلك فهو عدو لي).
كان يكثر من الدعاء لله تعالى بأن يجعل موته في سبيل هذه القضية المباركة، فكان يقول: (اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة)، وأصر على البقاء في أرض الوطن الحبيب وقال: (لا أغادر هذا الوطن حتى ألاقي وجه ربي والموت أقرب الى من كل شيء فإني أترقبه بالدقيقة). وعندما عرض عليه أن يترك ساحة الجهاد، ويسافر الى الحج قال : (لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي وان ثواب الحج لايفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة).
كانت عيون ايطاليا تترصد حركة عمر المختار في عودته الى برقة ولكنها فشلت في اللقاء به قبل أن يصل الى رفاقه وما كاد يصل الى بئر الغبي حتى فؤجئ بعدد من المصفحات الايطالية وإليك أحداث المعركة كما رواها عمر المختار بنفسه:
“كنا لانتجاوز الخمسين شخصاً من المشايخ والعساكر وبينما تجمع هؤلاء حولنا لسؤالنا عن صحة سمو الامير (يقصد امير مصر الذي كان قد سافر المختار للقاءه في القاهرة) ، وكنا صائمين رمضان وإذا بسبعة سيارات ايطالية قادمة صوبنا فشعرنا بالقلق لأن مجيئها كان محل استغرابنا ومفاجأة لم نتوقعها، وكنا لم نسمع عن هجوم الطليان على المعسكرات السنوسية، واحتلالهم اجدابية، فأخذنا نستعد في هدوء والسيارات تدنوا منا في سير بطيء فأراد علي باشا العبيدي أن يطلق الرصاص من بندقيته ولكنني منعته قائلاً: لابد أن نتحقق قبلاً من الغرض ونعرف شيئاً عن مجيء هذه السيارات كي لانكون البادئين بمثل هذه الحوادث وبينما نحن في أخذ ورد وإذا بالسيارات تفترق في خطة منظمة المراد منها تطويقنا، وشاهدنا المدافع الرشاشة مصوبة نحونا فلم يبق هنا أي شك فيما يراد بنا فأمطرناهم وابلاً من رصاص بنادقنا، وإذا بالسيارات قد ولت الادبار الى منتجع قريب منا وعادت بسرعة تحمل صوفا، ولما دنت منا توزعت توزيعاً محكماً وأخذ الجنود ينزلون ويضعون الأصواف (الخام) أمامهم ليتحصنوا بها من رصاصنا( ) وبادرنا بطلق الأعيرة فأخذ علي باشا يولع سيجارة وقلت له رمضان ياعلي باشا منبهاً إياه للصوم فأجابني قائلاً: (مو يوم صيام المنشرزام). وفي أسرع مدة انجلت المعركة عن خسارة الطليان وأخذت النار تلتهم السيارات إلا واحدة فرت راجعة، وغنمنا جميع ماكان معهم من الأسلحة”.
بعد أن تم اللقاء بين عمر المختار والسيد الرضا اتفقا على تنظيم حركة الجهاد وإنشاء المعسكرات في الجبل الاخضر واقترح عمر المختار على الرضا أن يرسل ابنه الصديق الى معسكر المغاربة عند صالح الاطيوش ومعسكر العواقير بقيادة قجة عبدالله السوداني، وهي معسكرات قريبة من بعضها ثم غادر عمر جالو الى الجبل الاخضر وشرع في تشكيل المعسكرات للمجاهدين، وأصبح عمر المختار القائد الأعلى لتلك المعسكرات.
كان معسكر البراغيث هو مركز الرئاسة العامة ومقر القائد العام عمر المختار: وهو النواة الاولى وحجر الاساس لمعسكرات الجبل الاخضر الثلاثة وكان عمر المختار يلقب بنائب الوكيل العام، وكان السيد يوسف بورحيل يعرف بوكيل النائب وهكذا فقد تنظم الجهاز الحكومي في هذه المنطقة الواسعة بتشكيل المحاكم الشرعية والصلحية وإدارة المالية (المحاسبة، والارزاق وجباية الزكاة الشرعية والخمس من الغنائم) واستمر التعاون بين هذه المعسكرات الثلاثة وفروعها في السراء والضراء وأخذت تقوم بحركات عظيمة ضد العدو وشن الغرة عليه في معاقله؛ كما كانت تتصدى لزحفه عليها، فتهجم حيناً ، وتنسحب حيناً آخر حسب ظروف الحرب .
الفترة بين عامي 1924م، 1925م شهدت مناوشات عدة ومعارك دامية، ووسع المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل الاخضر ولمع اسم عمر المختار نجمه كقائد بارع يتقن اساليب الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم بين القبائل.
أصبح تفكير إيطاليا محصوراً في برقة التي لم يتمكن الطليان منذ زحفهم على اجدابية سنة 1923م من احتلال مواقع تذكر عدا مدينة اجدابية ولذلك اهتمت ايطاليا ببرقة وانحصرت مجهوداتها في الفترة الواقعة بين سنة 1923م وبين 1927م على معسكرات عمر المختار الذي لم يخرج يوماً من معركة إلا ليدخل في معركة أخرى.
في عام 1927م وقع الوكيل العام السيد رضا المهدي السنوسي في الأسر بطريق الخديعة والخيانة والغدر وسقطت مناطق برقة الحمراء والبيضاء تدريجياً.
كانت قيادة الجيش الايطالي في برقة قد بدلت وتولى أمرها لتنفيذ الخطة الجديدة التي تستهدف ضرب الحصار على حركة الجهاد في الجبل الاخضر (ميزتي) كما استبدل والي بنغازي الايطالي (مومبيلي) بخلفه الجنرال (تيروتس) وهو من زعماء الحزب الفاشيستين وزود الجنرال ميزتي بعدد كبير من الجنرالات وكبار الضباط وأركان الحرب لمساعدته وفي نفس السنة تقدمت القوات الايطالية من طرابلس بقيادة الجنرال غرسياني فاحتلت واحة الجفرة والقسم الاكبر من فزان .
كانت القيادة الايطالية حريصة على الاستيلاء على فزان فخرجت في اواخر يناير 1928م قوتان .. احدهما من غدامس والاخرى من الجبل الاخضر، وكان الجيش بقيادة غراسياني والتحم المجاهدون مع ذلك الجيش في معركة دامية استمرت خمسة أيام بتمامها، انهزم فيها الطليان شر هزيمة فتقهقروا تاركين مالديهم من مؤن وذخائر.
مالبث أن خرجت قوة اخرى قصدت فزان مباشرة، فعلم المجاهدون بامرها بعد خروجها بثلاث أيام وانسحبوا الى الداخل، حتى اذا وصل هذا الجيش الجديد الى مكان يقع بين جبلين يعرفان بالجبال السود انقض المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فبدأ قادة الحملة بالفرار بسياراتهم تاركين وراءهم الجيش ، الذي وقع أكثره في قبضة المجاهدين، فأستأصلوهم عن آخرهم.
عندئذ لم يجد الطليان مناصا من أن يجددوا محاولتهم ، فخرجت هذه المرة قوات عظيمة من جهات متعددة غير أن الطليان ما لبثوا ان انهزموا في هذه المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابا كثيرة، وجدد الطليان المسعى وخرجوا من الجفرة في 30 فبراير 1928م بجيش كبير وزحفوا على زله واحتلتها في 22 فبراير وواصلت القوات الايطالية سيرها واحتلت آبار تقرفت في 25 فبراير واستمرت العمليات وانتهت باحتلال مراده، واصبحت زلة وجالو، واوجله ومراده تحت سيطرتهم، ومما ساعد الطليان على احتلالهم لتلك الواحات سقوط الجغبوب قبل ذلك في ايديهم، وسياستهم الرامية لتفتيت الصف بواسطة بعض عملائهم وكان الطليان يبذلون الأموال والوعود لزعماء القبائل، لوقف القتال وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً.
كان احتلال الجغبوب ، جالو، اوجلو، وفزان وغيرها من الواحات قد جعل عمر المختار في عزلة تامة في الجبل الاخضر ومع هذا ظل عمر المختار يشن الغارات على درنة وماحولها حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته ، فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه وفرّ الطليان تاركين عدداً من السيارات والمدافع الجبلية وصناديق الذخيرة والجمال، ودواب النقل.
استمر المجاهدون في الجبل الأخضر يشنون الهجمات على القوات الإيطالية وحققوا انتصارات رائعة من أشهرها موقعة يوم الرحيبة بتاريخ 28 مارس 1927م.
أراد الإيطاليون أن ينتقمون لقتلاهم في معركة الرحيبة، فشرعوا بعد العدة للانتقام لقتلاهم الضباط الستة وأعوانهم المرتزقة البالغ عددهم (312) في محاولة لإعادة معنوياتهم المنهارة نتيجة لتلك الهزيمة الساحقة تمّ اعداد الجيوش الجرارة، لتتخذ من الجبل الأخضر قاعدة لها و
يضاف لها سلاح الطيران الذي انطلق من قواعده بالمرج ومراوه وسلنطة. ولقد كانت قوات الايطاليين ضخمة مما تدلنا على خوفهم ورهبتهم من قوات المجاهدين.
كان عدد المجاهدين مابين 1500 الى 2000 مجاهداً، منهم حوالي 25% من سلاح الفرسان ويرفقهم حوالي 12 ألف جمل، ومايثقل تحركاتهم من النساء والاطفال والشيوخ والأثاث.
علمت ايطاليا بواسطة جواسيسها بموقع المجاهدين في عقيرة ام الشفاتير فارادت أن تحكم الطوق على المجاهدين فزحفت القوات الايطالية نحو العقيرة بعد مسيرة دامت يومين كاملين واستطاعت أن تضرب حصاراً حول المجاهدين من ثلاث جهات، وبقوات جـرارَّة تكونت من حوالي (2000) بغل و5000 جندي، 1000 جمل بالاضافة الى السيارات المصفحة والناقلة.
علم المجاهدون بذلك وأخذوا يعدون العدة لملاقاة العدو فأعدوا خطة حربية وقاموا بحفر الخنادق حول أطراف المنخفض ليستتر بها المجاهدون وخنادق اخرى لتحتمي بها الأسر من نساء وأطفال وشيوخ، وتم ترتيب المجاهدين على شكل مجموعات حسب انتمائهم القبلي ووضعت أسر كل قبيلة خلف رجالها المقاتلين، وكان عمر المختار من ضمن الموجودين في تلك المعركة.
سقط الشهداء واشتدت المعركة ، وارتفعت درجة حرارة البنادق بسبب استمرار اطلاق العيارات النارية واستعمل المجاهدون الخرق البالية لتقيهم حرارة مواسير البنادق التي لا تطيقها يد المجاهد. وكان بعض المجاهدين يملك بندقيتين يستعمل الواحد مدة ثم يتركها حتى تبرد ويتناول الاخرى.
خصص القائد حسين فرقة من المجاهدين للتصدي للمصفحات المهاجمة من الجنوب وعددها ثلاثون مصفحة ولعب كومندار طابور المعية المجاهد سعد العبد السوداني دوراً بارزاً وأظهر شجاعة نادرة بأن قاد تلك الفرقة المواجهة للمصفحات الايطالية وتمكن من تدمير أغلبها مع رجاله وانتزع المجاهد رمضان العبيدي العلم الايطالي من على أحد المصفحات ، وبدأ الجيش الايطالي في التقهقر ودخل الرعب نفوس ضباطه وجنوده الذين وجدوا فرصة الحياة في الهروب وبالرغم من قصف الطائرات إلا أن الايمان القوي ، واحتساب الأجر عند الله كان دافعاً مهماً لدى المجاهدين.
كانت خسائر المجاهدين في الارواح 200 شهيد من بينهم والد زوجة عمر المختار الذي بكاه بكاءً حاراً. وفقد المجاهدون في تلك المعركة عدداً كبيراً من الابل والمواشي وتم حرق بعض الخيام من جراء الغارات الجوية. ومكث المجاهدون طيلة الليل يدفنون الشهداء وينقلون الجرحى.
في سبتمبر عام 1927م غزت جموع الزوية الجخرة ومرسى بريقة وجالو وأوجلة، وأنزلوا بالطليان خسائر فادحة، واشتدت مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر على الرغم من احتلال الطليان للواحات ومراكز السنوسية الهامة.
في منتصف فبراير 1929م نزلت قوات المجاهدين من الهروج الأسود للانقضاض على النوفلية من جانب وعلى إجدابية من جانب آخر، فاجتمعت من الجيفة ثم انقسمت ثلاث فرق التحمت إحداها مع الطليان في معركة عند قارة سويد في 5 مارس، واشتبكت الثانية معهم في معركة كبيرة عن النوفلية في 14 مارس واتجهت الثالثة بقيادة عبدالقادر الأطيوش من الجيفة صوب منطقة العقيلة في 23 مارس، ثم استقر المجاهدون في جبل سلطان واضطر المجاهدون إلى الانسحاب أمام قوات العدو العظيمة صوب وادي الفارغ.
اجتمع المختار مع باريلا في الشليوني في الجبل الأخضر في يوم 6 إبريل 1929م ثم خير مندوب الحكومة عمر بين ثلاثة أمور: إما الذهاب إلى الحجاز، أو الذهاب إلى مصر، أو البقاء في برقة، فإذا رضي بالبقاء في برقة أجرت عليه الحكومة مرتباً ضخماً وعاملته بكل احترام ولكن المختار رفض هذه الشروط وكان السيد رضا يخضع لرقابة صارمة منعته من تبادل الرأي مع عمر المختار.
استؤنفت المفاوضات في هذه المرة في مكان يسمى قندولة بالقرب من سيدي رويفع وحضر اجتماع قندولة باريلا، وكمباني وعدد من الضباط والأعيان وكان سيشلياني قد بيت النية على الإيقاع بالمختار وأسره، ولكن عمر المختار احتاط للأمر ولم يسفر هذا الإجتماع عن شيء.
في 26 مايو بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكان قريب من القبقب. وفي هذا الإجتماع دارت المباحثات على أساس ماجاء في منشور بادوليو فعرض دودياشي شروط الحكومة وهي:
1- عودة السيد إدريس، وأحمد الشريف والسيد صفي الدين وسائر أعضاء الأسرة السنوسية إلى البلاد على أن يكونوا تحت إشراف الحكومة وأن يتم رجوعهم بترخيص من الحكومة بوصفهم مهاجرين يبغون العودة إلى أوطانهم وتعهدت الحكومة بعاملتهم المعاملة اللائقة بهم على غرار ماتفعله مع السيد الرضا.
2- احترام الزوايا وأوقافها ودفع المرتبات لشيوخها.
3- إرجاع أملاك الأسرة السنوسية.
4- إعفاء الزوايا وأملاك السنوسية من الضرائب.
5- تسليم المجاهدين نصف مامعهم من أسلحة لقاء ألف ليرة إيطالية تدفع ثمناً لكل بندقية يسلمونها، وعلى أن ينضم بقية المجاهدين المسلحين إلى المنظمات التي تنشئها الحكومة تحت إشرافها وإدارتها وذلك لمدة معينة تحددها الحكومة فيما بعد في نظير أن تعد أماكن لإقامتهم يسهل على الحكومة إمدادهم فيها بالمؤن فضلا عن إحكام الرقابة عليهم.
6- إبعاد كل الإخوان السنوسيين من الأدوار وتتعهد الحكومة بإعطائهم المرتبات التي تناسب مراكزهم.
اعترض المختار على تسليم الأسلحة وحل الأدوار، وأصر على بقاء الأدوار تحت قيادة السيد حسن الرضا على أن يكون للحكومة نوع من الإشراف العام فحسب وأيد رأي المختار عبدالحميد العبار، ورفض دودياشي عروض المختار وانفض الإجتماع على أن يعرض دودياشي هذا الحل – كما طلب المختار من نائب الوالي في برقة حتى يفصل فيه سيشلياني بنفسه.
تم اللقاء مجددا بين الفريقين لاتفاقية المفاوضات ولكن هنا أصر عمر المختار على حضور مندوبين من قبل الحكومتين المصرية والتونسية ليكونا شاهدين على الاتفاق، لأنه سبق الاتفاق مع الطليان ولكنهم نكثوا عهودهم، وأظهر المختار رغبته الصادقة في الاتفاق إذا أقرت الحكومة الإيطالية مطالبه ، وكانت الشروط التي عرضها المختار تكفل المحافظة على هوية الشعب وعقيدته ودينه ولغته، وتحفظ أوقاف الزوايا وتعطي عمر المختار الحق في أخذ الزكاة الشرعية من القبائل ومن أهم هذه الشروط:
1- أن لاتتدخل الحكومة في أمور ديننا، وأن تكون اللغة العربية لغة رسمية معترفاً بها في دواوين الحكومة الإيطالية.
2- أن تفتح مدارس خاصة يدرس فيها التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، وسائر العلوم.
3- وأن يلغى القانون الذي وضعته إيطاليا والذي ينص على عدم المساواة في الحقوق بين الوطني والإيطالي إلا إذا تجنس الأول بالجنسية الإيطالية
4- إرجاع جميع الممتلكات التي اغتصبتها الحكومة من الأهالي وإعطائهم مطلق الحرية في حمل السلاح وجلبه من الخارج إذا امتنعت الحكومة عن بيع السلاح لهم.
5- على أن يكون للأمة رئيس منها تختاره بنفسها ويكون لهذا الرئيس مجلس من كبار الأمة له حق الإشراف على مصالحها، كما يكون للقاضي الإسلامي وحده الفصل بين المسلمين.
6- طالب عمر المختار بإعلان العفو الشامل عن جميع من عدتهم إيطاليا مجرمين سياسيين سواء كانوا داخل ليبيا أم خارجها، وإطلاق سراح المسجونين، وسحب كل المراكز التي استحدثها الطليان في أثناء الحرب بما في ذلك مراكزهم في الجغبوب وجالو.
7- اشترط بأن لزعماء المسلمين الحق في تأديب من يخرج عن الدين أو يهزأ بتعاليمه أو يتهاون في القيام بواجباته.
إن حرص عمر المختار على رفض الخضوع لأي إرادة أو سلطة غير سلطة الله واضح في حياته، ويظهر ذلك جلياً في شروطه، فقد كان دائماً مصراً على شرط تطبيق الشريعة الإسلامية بين المسلمين ورفض كل ماعداه من قوانين وضعية في مفاوضاته.
أظهر بادوليو قبول الشروط ولكنه نكث بوعوده وأخذ يستعد للقضاء على المجاهدين، وشرع الطليان يبذرون بذور الشقاق في صفوف المجاهدين على أمل أن يضعفوا من قوتهم.
لقد نكث الطليان بعهدهم وقبضوا على الحسن نفسه وساقوه أسيراً إلى بنغازي ثم مالبثوا حتى نفوه إلى جزيرة اوستيكا ثم إلى فلورنسه بعد ذلك. وقد بقى الحسن منفياً بهذه المدينة الأخيرة حتى وفاته في عام 1936، وبعد ذلك اندلعت المعارك بين المجاهدين والطليان في الجبل الأخضر وكانت الطائرات الإيطالية تلقي قذائفها على معسكرات المجاهدين ونشطت عمليات الطليان العسكرية بعد أن غدروا بالحسن وهاجموا دور المجاهدين في وادي مهجة (28 يناير 1930) وألقت الطائرات قذائفها على العرب، وانتشرت المعارك في منطقة الجبل حتى أقفلت جميع الطرق.
بعد فشل المفاوضات بسبب خداع الطليان ، خاطب السيد عمر المختار المجاهدين وأبناء شعبه قائلا: “فليعلم إذاً كل مجاهد أن غرض الحكومة الإيطالية إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيء من ذلك. وليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطالية شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية وإن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركة قومية تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدمه … فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوب تعرف أن في سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخص وغال”، ثم ختم المختار هذا النداء بقوله: “لهذا نحن غير مسؤولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ماهي عليه حتى يتوب أولئك الأفراد النزاعون إلى القضاء علينا إلى رشدهم ويسلكوا السبيل القويم ويستعملوا معنا الصراحة بعد المداهنة والخداع”.
● كان الجنرال غراسياني عند قومه معظماً ومقدماً وقد قام بأعمال عسكرية في فزان شنيعة للغاية واستطاع أن يقضي على حركة الجهاد في فزان بدخوله غات في 25 فبراير 1930م وكان نصرانياً حقوداً على الإسلام والمسلمين لم يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.
● جاء غراسياني من ايطاليا ولديه تعليمات فيها تصميم الحكومة الفاشستية القضاء المبرم على الحركة الوطنية (الثورة) مهما كلف ذلك وبكل الطرق والوسائل لأنها القضية البرقاوية، والتعليمات هي:
1- تصفية حقيقية لكل العلاقات بين الخاضعين وغير الخاضعين من الثوار سواء في قاعدة العلاقات الشخصية أو الأعمال والحركات التجارية.
2- إعطاء الخاضعين أمناً وحماية ولكن مراقبة لكل نشاطاتهم.
3- عزل الخاضعين عن أي تأثير سنوسي ومنع أي كائن منعاً باتاً من قبض أي مبالغ من الأعشار والزكاة.
4- مراقبة مستمرة ودقيقة في الأسواق وقفل الحدود المصرية بكل صرامة بحيث تمنع أي محاولة تموين لقوافل العدو (أي المجاهدين).
5- تنقية الأوساط المحلية التي توجد بها عناصر تدعي الوطنية ابتداءً بالمدن الكبيرة وخاصة بنغازي.
6- تعيين عناصر غير نظامية من الطرابلسيين لكي يكونوا قوة مضادة للمجاهدين وتعني بتطهير الأقليم من كل تمرد أو ثورة.
7- حركة دقيقة وخفية لكل قواتنا (الطليان) المسلحة في المنطقة لخلق جو مذبذب ضد كل (الأدوار)، والمعسكرات، والضغط عليها حتى تتكبد الخسائر وتشعر بأن قواتنا موجودة دائماً وفي كل مكان مستعدة للهجوم.
8- الاتجاه السريع للاحتلال الكامل لكل أراضي مستعمرة الكفرة.
هذا هو جزار ليبيا غرسياني الذي جاء محملاً لتنفيذ الأوامر السالفة الذكر من أسياده في روما الكاثوليكية الفاشستية الميكيافلية ومعلناً إنه سوف : يتبع بكل إخلاص تعاليم الدولة الفاشستية ويسير على مبادئها، لأنه وإن كان قائد من قـادة الجيش وأحد الرجال العسكريين إلا أنه يدين بمبادئ فاشستية محضة ويعلن هذه الحقيقة بكل وضوح وصراحة تامة.
● كان الجنرال غراسياني معروفاً بالعجرفة والطيش وبالجبروت الوهمي، وكان يستفتح خطاباته الطائشة بقوله (صموا أفواهكم وافتحوا آذانكم) ليلقي الرعب في نفوس المستضعفين الذين استسلموا وخضعوا لإيطاليا وكان قد ألقى كلمة تهديدية في جموع حشدتها السلطات في موقع البريقة إستهلها بقوله (ما أنتم إلا مثل سيجارة موقودة من الجانبين تلتهمها النار من هنا ومن هناك حتى تصبح رماداً وهاهو ذا أنا أولع السيجارة من جانبي ويوقدها عمر المختار من جانبه حتى يؤتى عليكم).
● قام غرسياني وحكومته بحشد المجهودات الضخمة للقضاء على عمر المختار بالصورة التي كلفت الخزانة الإيطالية في سنة واحدة مالا يقل عن النفقات التي تتكبدها دولة عظيمة لمجابهة دولة تماثلها في عدة سنوات.
● لم يمض على وصول غراسياني سوى ايام قلائل حتى أنشأ ماعرف في تاريخ الاستعمار الايطالي الاسود باسم المحكمة الطائرة (ابريل 1930م) ، كانت تلك المحكمة تقطع البلاد على متون الطيارات وتحكم على الأهالي بالموت ومصادرة الأملاك لأقل شبهة وتمنحها للمرتزقة الفاشست وكانت تلك المحاكم تنعقد بصورة سريعة وتصدر احكامها وتنفذ في دقائق وبحضور المحكمة نفسها لتتأكد من التنفيذ قبل أن تغادر الموقع الذي انعقدت فيه لتنعقد في نفس اليوم بموقع آخر، وفتحت أبواب السجون في كل مدينة وقرية ببرقة وانتزعت الأموال من المسلمين بدون مبرر، ونصبت أعواد المشانق في كل أنحاء ليبيا.
● بدأ غراسياني ينفذ سياسة عزل الاهالي الخاضعين عن المجاهدين ، وشرع في جمع الاخوان السنوسيين من شيوخ الزوايا وأئمة المساجد ومعلمي القرآن بها مع ذويهم جميعاً، وكل من تربطه بأحد هؤلاء أية صلة، وكذلك بمشايخ وأعيان القبائل، وبكل من يربطه أي نوع من أنواع الصلات بأحد المجاهدين او المهاجرين، جيء بهذه المجموعات يساقون الى مراكز التعذيب ثم الى السجون ولم يشفع في أحدهم سن الشيخوخة الطاعنة، او الطفولة البريئة أو المرض المقعد، او الضرر الملازم.
● انشئت معتقلات جديدة وخصص غراسياني مواقع من الصحراء لتكون مواقع الاعتقال والنفي والتشريد والتعذيب لسكان منطقتي الجبل الاخضر والبطنان بصورة جماعية، وبغير سكان هذين المنطقتين ممن تحوم حولهم أية شبهة، او تلفق ضدهم اقل فرية، وأمر بنقل قبائل هاتين المنطقتين المذكورتين الى هذه المعتقلات الخاصة بهم ثمانين ألفاً، وماهي في الحقيقة إلا مقابر يدفن فيها الاحياء وأداً.
● خصص معتقلات لكل من قبائل البراعصة والدرسا والعرفا والعبيد وأتباعهم وشطر كبير من عائلات الاخوان السنوسييين الذين سبق أن أبعد غرسياني رجالاتهم الى ايطاليا أو فرقهم بين السجون المختلفة، جيء بهذه القبائل التي بلغ تعدادها الثمانين ألف نسمة يساقون زمراً الى المعتقلات المذكورة، فمنهم من جاءها عن طريق البحر حيث حشروا بالمراكب حشراً ومنهم من جاءها عن طريق البر بعد أن أتت إيطاليا على جميع المنقولات حرقاً بالنار، أحرقت الزراعة ومحصولاتها، وأهلكت الحيوانات فيما عدا ما استعملته للنقل، وأحيط القسم المساق عن طريق البر بجنود من الصوماليين والاريتريين ليتعقبوا كل من يتخلف عن المساقين الى حتفهم، ويرمى المتخلف بالرصاص ، وكان الرامي غير مسؤول عن عمله هذا، وأصبحت جميع مناطق الجبل والبطنان هلاكاً تلعب فيه الرياح.
● اراد غراسياني الانتقام من القبائل التي اثبتت الايام انها نعم العون للمجاهدين بعد الله، فجمع النواجع المنتشرة في منطقة الجبل الاخضر في أماكن احاطها بالاسلاك وحدث في تلك المعتقلات الجماعية مالم يصدقه بشر ولا خطر على بال انسان يعقل، لقد اشتدت المحنة واعتدى الايطاليون على الأبدان والاموال والأعراض في تلك المعتقلات.
● في أحد الايام وعقب انتقام الايطاليين من احد المنتجعات التي كانت تقدم مساعدات للمجاهدين تقدم بعض زعماء القبائل باحتجاج الى عمر المختار وطلبوا منه اما ان يسلم الى الايطاليين او أن يرحل عن مواطنهم أو انهم سوف يحاربونه لكي يتجنبوا انتقام الايطاليين، وعلى اثر تسلم هذا الانذار دعا عمر المختار الى عقد اجتماع في منطقة قصر المجاهير وقد ساد هذا اللقاء حالة من التوتر وشدة في النقاش في محاولة لتجنب حرب اهلية بين المجاهدين والليبيين الواقعين في المناطق الخاضعة للاحتلال ، فرأى بعض المجاهدين تجنباً لهذا الوضع الحرج أن يهاجروا الى مصر لكي لا يتعرض الأهالي الى الانتقام وبعد حوار طويل، اظهر المختار مصحفه واقسم عليه بأنه لن يتوقف عن مجاهدة الايطاليين، وانه لن يترك الجبل الاخضر حتى يتحقق النصر او الشهادة، وفي نفس الوقت أعلن للمجاهدين انه من يريد الهجرة الى مصر فله مطلق الحرية في السفر او التسليم للايطاليين وعندما رأى المجاهدون موقف قائدهم عدلوا عن رأيهم واطاعوه وانفض الاجتماع على وحدة صف المجاهدين.
● استمر غرسياني في تدابيره العسكرية، فلم يأت يوم 14 يونيو حتى كان الطليان قد استولوا على منطقة الفايدية، بأجمعها واحتلوها ونزعوا من الاهالي الخاضعين لهم 3175 بندقية ، 60.000 خرطوش.
● نقل عمر المختار دائرة عملياته الى الناحية الشرقية في الدفنا نظراً لقربها من الحدود المصرية وذلك حتى يتمكن من إرسال المواشي التي يأتيه بها الأهالي الى الاسواق المصرية في نظير أخذ حاجته من هذه الاسواق ، مما جعل غراسياني يقرر إقامة الاسلاك الشائكة على طول الحدود الشرقية مايزيد على 300كم من البحر المتوسط وقد كلف الدولة الايطالية عشرين مليوناً فرنكاً ايطالياً.
● استمرت المعارك بين الايطاليين والمجاهدين ومن اشهر تلك المعارك (كرسة) التي وقعت في يوم 20 ديسمبر وقد استشهد في هذه المعركة الساعد الأيمن لعمر المختار الشيخ الجليل والمجاهد الفذ الفضيل بوعمر الذي شارك في مسيرة الجهاد منذ دخول الغزو الايطالي في 1911م وشهد له بالشجاعة والاخلاص في جهاده وقد ذكر عمر المختار تفاصيل هذه المعركة في رسالة له جاء فيها: “هاجم العدو المعسكر، وكان رئيسه السيد فضيل بوعمر وقد استشهد في هذه المعركة الى جانب الفضيل اربعون شهيداً وقد وجدنا في ميدان القتال مايزيد عن 500 من العدو وبينهم ماجور وثلاثة ضباط، وشدد الطليان عملياتهم العسكرية في منطقة الجبل الاخضر بعد هذه الواقعة، واستمرت جموعهم تناوش المجاهدين مدة اسبوعين، ولكن دون الوصول الى نتيجة”.
● في اكتوبر 1930م تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على (نظارات) السيد المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلا في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار مازال على قيد الحياة، وأصدر غراسياني منشوراً ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على (أسطورة المختار الذي لايقهر أبداً) وقال متوعداً : (لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغداً نأتي برأسه).
● مع شدة قبضة الاستعمار الايطالي على المدن إلا أن ذلك لم يمنع الاهالي من القيام بواجبهم المقدس ، واستطاعت المخابرات الايطالية ان تقبض على عدد من الليبيين الذين يزودون حركة الجهاد بالمؤن والمعلومات وتم اعدامهم .
● في شهر سبتمبر 1930م اكتشفت قوة الامن بمنطقة البركة ببنغازي أن المواطن محمد الحداد أحد اعيان بنغازي ومن تجارها يتعاون مع الثوار وعن طريقه تتم حركة الامدادات من المؤن والأسلحة وكان يستضيف في بيته الثوار ويمدهم بما يلزمهم وفي الوقت والحين حضرت المحكمة الخاصة وحكمت على الأب والابن بالاعدام شنقاً أمام الجماهير التي ارادت السلطات الايطالية إحضارهم خصيصاً لمشاهدة تنفيذ الحكم.
● تجمعت القوات الايطالية يوم 29 شعبان سنة 1349هـ بموقع الهواري، وهناك اشتبكت قواتهم مع المجاهدين في اولى المعارك وكانت معركة غير متكافئة، وقد اشترك قسم من الطائرات الايطالية مكون من عشرين طائرة، واستمرت المعركة ثلاثة ساعات قتل اثناؤها العدد الكثير من الايطاليين ومن المدافعين الذين ماكانوا يفكرون في صد العدوان طويلاً ولكنهم يحاولون إيقافه بعض الوقت ريثما يتمكن من يستطيع الفرار ليأخذ طريقه الى السودان أو مصر، لقد قاتل المجاهدون جميعاً بشجاعة وبسالة نادرة ، فلم يكفوا عن القتال، واستشهد العشرات ووقع في أسر الطليان ثلاثة عشر فقط، وغنم الطليان مائة بندقية، واحتلوا الكفرة، وهتكوا الاعراضن وفعلوا مالم يفعله انسان.
● لما احتلوا واحة الكفرة في 13 يناير من سنة 1931م استباحوا قراها ثلاث أيام فقتلوا ماصادفوه من الأهالي وكان من جملة القتلى بعض الشيوخ الأجلاء . ثم اغتصبوا النساء في أعراضهن وقتلوا منهن كثيراً ممن دافعن الى الآخر عن اعراضهن ، وأراقوا الخمور فيها، وداسوا المصاحف الشريفة بالأقدام هذا منظماً الى ما كان بلغهم من قبل من اجلاء 80 ألفاً من عرب الجبل الاخضر عن أوطانهم واماتتهم بالجوع والعطش، وأخذ اطفالهم قهراً الى ايطاليا لأجل تنصيرهم إلى ماكان بلغهم من فظائع كثيرة مثل حمل الشيخ سعد شيخ قبيلة (الفوائد) وخمسة عشر شيخاً من رفاقه بالطائرات وقذفهم بهم من الجو على مشهد من أهلهم حتى إذا وصل احدهم الى الارض وتقطع ارباً صفق الطليان طرباً.
● سمح المحتلون لجنودهم أن يعبثوا بالسكان لمدة ثلاثة أيام مطلقي الأيادي في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل النواحي تصرفات وحشية لم تخطر على بال احد نهبوا وقتلوا واحرقوا كل مامروا به ولم يتركوا أي جريمة تخطر ببالهم إلا وارتكبوها، قتلوا العلماء والمشائخ، هتكوا حرمات البيوت وبقروا بطون النساء وبلغ عدد العائلات التي قضي عليها عند احتلال الكفرة يزيد عن 70 عائلة من علية القوم.
● 80.000 عربي نقلتهم القوات الغاشمة من أراضيهم الخصبة في الجبل الأخضر الى مناطق جدبة صحرواية لا ماء فيها ولا كلأ، هي منطقة (سِرت) كي تموت المواشي جوعاً، وعطشاً .
● بقية الأراضي استولى عليها الجنود الايطاليون وأصبح أهلها فقراء تدفع لهم الحكومة الايطالية فرنكين عن كل يوم لكل شخص مهما كان عدد عائلته.
● بالنسبة لحلي النساء وملابسهن فقد نهبها الجنود الايطاليون، وأصبحت العائلات في هوة الفقر سواسية، وفي اثناء مرافقة هذا العدد الضخم من رجال ونساء وأطفال، كان الجنود يسومونهم سوء العذاب وكل من يعجز عن المسير مصيره الموت فيقتلونه ويتركونه يتخبط في دمه.
● الرجال والشبان الذين تترواح اعمارهم من 15 الى 40 سنة اجبروا على الانخراط في قوات الجيش. واما الصغار الذين تترواح اعمارهم من 14 سنة فقد اخذوا بالقوة من أهليهم وارسلوا إلى ايطاليا بحجة تعليمهم، ولكن في الحقيقة كان ذلك من أجل تنصيرهم.
● اعتدوا على الحريات اغتصبوا النساء وهتكوا الاعراض.
● زجّ الايطاليون في السجون الكثير من الأهالي ومشايخ القبائل وقد عارضهم وندد بأعمالهم الشيخ سعد الفايدي شيخ قبيلة الفوايد فما كان منهم إلا أن قتلوه ومعه 15 من ابناء قبيلته البعض منهم ألقي من الطائرة من علو 400 متر وكلما كانت الطائرة تلقي بواحد منهم هناك كان الهتاف يعلو وصياح الجنود يزداد.
● الصحفي الدانماركي الشهير (كنود هولمبوي) الذي اعتنق الاسلام وقام بجولة سياحية أثناء هذه الفترة في ليبيا، قد شاهد بنفسه وعينيه كل التعذيب والاضطهاد الذي يقوم به الجنود الايطاليون الفاشيست يقول: “شاهدت 20 عربياً مسلسلين .. شنقهم الجنود بأمر من ضابطهم دون محاكمة ولم تكن هناك محكمة..هذا المنظر البشع أثر في نفسي ولم يكن في اعتقاده ان دول مثل ايطاليا الفاشستية وهي احدى دول البحر الابيض المتوسط تقوم بمثل هذه القسوة وهذه الوحشية إنها جرائم سيسجلها التاريخ في صفحة سوداء ، وستبقى وصمة عار في جبين إيطاليا على مدى الدهر والأزمان”.
● وزعت إيطاليا المبشرين في طول البلاد وعرضها وبنت العديد من المعابد والكنائس في كل المدن والقرى لتقضي على الدين الاسلامي .
● صادرت أملاك المواطنين وأوقاف المسلمين والزوايا السنوسية وأوقافها. وبهذه الطريقة الجهنمية عملت ايطاليا الفاشستية على تملك الايطاليين كل الممتلكات الليبية وبالتدريج وابعاد الليبيين من كل المجالات حتى تصبح ليبيا خالية من كل العناصر ولا يبقى بها إلا الايطالي المسيحي الكاثوليكي.
● استحوذت على الملايين من هكتارات الاراضي الزراعية وغيرها بطرد أهلها الحقيقين ونقلهم الى المناطق الهلاك هم ومواشيهم على السواء امام أعين العالم المتمدن.
● اضطر المئات من بني الإنسان ما بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ تحت ضغط الجور إلى أن يتركوا أوطانهم تخلصاً من الظلم، وأن يهيموا على وجوههم في القفار، ولولا مروءة مأجور الواحات المصري الذي خرج هو ورجاله للبحث عنهم حتى لقيهم وأنقذهم لهلكوا عطشاً وجوعاً أولئك هم فريق من إخواننا الطرابلسيين الذين خرجوا من قسوة الحكم الإيطالي الذي لايطاق.
● لم تكد أعيننا تكفكف الدموع على هذا المشهد الذي شهدته على اليابسة حتى حملت إلينا أمواج البحر في السلوم مشهداً آخر أفظع من هذا وأشنع، فرمى البحر إلى هذا الساحل المصري أربع عشرة جثة من جثث هؤلاء الطرابلسيين مغلولة في سلسلة واحدة.
● زاوية الكفرة المنقطع أهلها للعبادة ، أمطرتها طائرات الإيطاليين بالقنابل وفتكت بأهلها فتكاً ذريعاً، وبعد ذلك هاجمها الجيش، وكاد يأتي على البقية من أهلها ولم يتعفف عن هتك الأعراض وسلب الأموال وبقر بطون الحوامل.
● لما ذهب كبار شيوخ زاوية الكفرة إلى القائد الكبير يرجونه وضع حد لهذه المذابح أمر بذبحهم فذبحوا أمامه كما تذبح الشياه.
● حدث مراراً أن الحكومة تعلن عن العفو والأمان، فإذا وقع العفو عنهم وغدو في قبضتهم غدرت بهم، وكان المئات ممن ذهبوا ضحية هذا الغدر .
● عبث الجنود الإيطاليين بالمكتبة السنوسية، التي كانت ثروة علمية ضخمة فأخذت أيدي الجنود تبددها ذات اليمين وذات الشمال وتقد بها النيران للطعام.
● اتمام وضعية مد الأسلاك الشائكة التي ستفصل بين برقة ومصر فصلاً نهائياً، فأخذ في سرعة تتميمها مجنداً لذلك كل مالديه من إمكانيات.
محمد أسد كان حديث عهد بالاسلام صاحب كتاب الطريق إلى الإسلام تعرف على أحمد الشريف أثناء إقامته في الحجاز وقد تأثر به غاية التأثر، وأحبه حباً عظيماً بسبب تفاعله مع قضية ليبيا وكان يمضي معه وبصحبة السيد محمد الزوي الساعات الطوال للبحث في وضع المجاهدين في ليبيا واستمرت الإجتماعات في مساء كل يوم طيلة أسبوع تقريباً لبحث ماكان بالإمكان صنعه.
تحدث محمد أسد عن سبب اهتمامه بالقضية السنوسية فقال: لم يكن اهتمامي البالغ بمصير السنوسيين ناشئاً عن إعجابي ببطولتهم المتناهية في قضية عادلة مقسطة فحسب، بل ان ماكان يهمني أكثر من ذلك هو ماكان يمكن أن يحدثه انتصار السنوسيين من تأثير على العالم العربي بأكمله إذ أنني لم استطع أن أرى في العالم الإسلامي كله إلا حركة واحدة كانت تسعى صادقة إلى تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي: الحركة السنوسية، التي كانت تحارب الآن معركتها الأخيرة في سبيل الحياة وبسبب أن السيد أحمد كان يعرف مبلغ عطفي الشديد على القضية السنوسية، فقد التفت إلي وسدد نظره إلى عيني وسألني قائلاً: (هل تذهب، يامحمد إلى برقة بالنيابة عنا، فتقف على مايمكن صنعه للمجاهدين؟ لعلك تستطيع أن ترى الأمور بأجلى مما يراها بنو قومي ).
وافق محمد أسد على تلك المهمة الصعبة، فتناول أحمد الشريف من على أحد الرفوف نسخة من القرآن الكريم ملفوفة بغلاف من الحرير، وبعد أن وضعها على ركبتيه أمسك بيدي اليمنى بين يديه ووضعها على الكتاب: (أقسم يامحمد، بالله الذي يعلم مافي القلوب، على أنك ستبقى أميناً للمجاهدين …).
قال محمد أسد: (فأقسمت ولم أشعر في حياتي يوماً أنني كنت أكثر وثوقاً بوعدي مما كنت في تلك اللحظة).
قام أحمد الشريف بترتيب أمور هذه الرحلة واتصل باتباع الحركة في مصر ووصل الخبر إلى عمر المختار واستعد محمد أسد لهذه الرحلة المثيرة مع رفيقه زيد من قبيلة شمّر، وشرع في تنفيذ خطواته وكان رجال الحركة السنوسية يقودونه بمهارة بارعة حتى وجد نفسه أمام عمر المختار في الجبل الأخضر وقد فصل الأستاذ محمد أسد تلك الرحلة في كتابه المشهور ).
بعد دخول محمد أسد إلى الجبل الأخضر من جهة الصحراء الغربية المصرية بواسطة المجاهدين الذين أرسلهم عمر المختار لاستقباله وجد محمد أسد نفسه أمام قائد حركة الجهاد ويصف لنا محمد أسد ذلك اللقاء فيقول:
– كان يحيط به رجلان من كل جانب، ويتبعه كذلك عدد آخر، وعندما وصل إلى الصخور التي كنا ننتظر عندها، ساعده أحد رجاله على النزول، ورأيت انه كان يمشي بصعوبة ، عرفت بعدئذ أنه قد جرح إبان إحدى المناوشات قبل ذلك بعشرة أيام) وعلى ضوء القمر المشرق استطعت الآن أن أراه بوضوح: كان رجلاً معتدل القامة قوي البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذي الخطوط العميقة. وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف انهما كانتا ضاحكتين براقتين في غير هذه الظروف، إلا انهما لم يكن فيهما الآن شيء غير الظلمة والألم والشجاعة.
– اقتربت منه لأحييه، وشعرت بالقوة التي ضغطت بها يده على يدي (مرحباًبك، يا ابني) قال ذلك وأخذ يجيل عينيه في متفحصاً: لقد كانت عيني رجل كان الخطر خبزه اليومي.
– فرش أحد رجاله حراماً على الأرض فجلس سيدي عمر عليه متثاقلاً. وانحنى عبدالرحمن، ليقبل يده ثم شرع بعد استئذانه، يوقد ناراً خفيفة تحت الصخرة التي كنا محتمين بها وعلى ضوء النار الخافت، قرأ سيدي عمر الكتاب الذي حملنيه السيد أحمد إليه. لقد قرأه باهتمام وعناية، ثم طواه ووضعه لحظة فوق رأسه – وهي إمارة الإحترام والحب لايكاد المرء يراها في جزيرة العرب ولكنه كثيراً مايراها في شمالي افريقيا – ثم التفت إلي مبتسماًوقال: (لقد أطراك السيد أحمد، أطال الله عمره، في كتابه. أنت على استعداد لمساعدتنا، ولكنني لا أعلم من أين يمكن أن تأتينا النجدة، إلا من الله العلي الكريم. إننا حقاً على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا ..).
– قلت: (ولكن .. هذه الخطة التي وضعها السيد أحمد، ألا يمكن أن تكون بداية جديدة؟ وإذا أمكن تدبير الحصول على المؤن والذخائر من الكفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الإيطاليين؟ ).
– لم أرى في حياتي ابتسامة تدل على ذلك القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التي رافقت جواب سيدي عمر: (الكفرة …؟ لقد خسرنا الكفرة، فالإيطاليون قد احتلوها منذ أسبوعين تقريباً …).
– أذهلني الخبر، ذلك إنني والسيد أحمد، طوال تلك الأشهر الماضية، كنا نبني خططنا على افتراض أن الكفرة يمكن أن تكون نقطة تجمع لتقوية المقاومة، أما وقد ضاعت كفرة فإنه لم يبق للسنوسيين سوى نجد الجبل الأخضر لاشيء سوى كماشة الإيطاليين التي كانوا يضيقونها بثبات واستمرار .. وخسارة نقطة بعد نقطة .. واختناق بطئ.
– ثم قلت: “وكيف سقطت الكفرة؟ ”
– أومأ سيدي عمر إيماءة متعبة إلى أحد رجاله أن يقترب: (دع هذا الرجل يقص عليك الخبر .. إنه واحد من أولئك القلائل الذين هربوا من الكفرة، ولم يصل عندي إلا بالأمس).
– جلس الكفري على ردفيه أمامي وجذب برنسه البالي حوله وتكلم ببطء دون أن يبدو في صوته أي أثر للانفعال، ولكن وجهه الناحل كان يعكس جميع الأهوال التي شهدها، وبدأ برواية القصة: (لقد خرجوا علينا في ثلاث فرق من ثلاث جهات، وكان معهم سيارات مصفحة ومدافع ثقيلة كثيرة. أما طائراتهم فقد حلقت على علو منخفض ورمت بالقنابل البيوت والمساجد وغياض النخيل. لم يكن لدينا سوى بضع مئات من الرجال يستطيعون حمل السلاح، أما الباقون فقد كانوا نساء وأطفالاً وشيوخاً. لقد دافعنا عن أنفسنا بيتاً بيتاً، ولكنهم كانوا أقوى كثيراً منا، وفي النهاية لم يبق إلا قرية الهواري. لم تنفع بنادقنا في سياراتهم المصفحة فطغوا علينا، وتمكن عدد قليل جداً من الهرب. أما أنا فقد اختبأت في حدائق النخيل، مترقباً الفرصة لشق طريقي خلال الخطوط الإيطالية، وكنت طوال الليل أسمع ولولة النساء اللواتي كان الجنود الإيطاليون والعساكر الاريتريون يغتصبونهن وفي اليوم التالي احضرت لي امرأة عجوز بعض الماء والخبز، واخبرتني أن الجنرال الإيطالي قد حشد كل ماتبقى على قيد الحياة أمام قبر السيد محمد المهدي وأمام أعينهم مزق نسخة من القرآن الكريم ثم رماها الى الارض وداس عليها بحذائه صائحاً: (دعوا نبيكم البدوي يساعدكم الآن، اذا استطاع!) ثم أمر بقطع اشجار النخيل في الواحة وهدم آبارها، واحرق كل ماكان في مكتبة السيد احمد البدوي من كتب وفي اليوم التالي اصدر امره بوضع بعض شيوخنا وعلمائنا في طائرة حلقت بهم ورمتهم من علو شاهق، وطوال الليلة التالية كنت اسمع من مخبئي صرخات النساء وضحكات الجنود وطلقات بنادقهم … واخيراً زحفت الى الصحراء في ظلام الليل فوجدت جملاً شارداً امتطيته ووليت فراراً… ).
– عندما انهى الرجل قصته المروعة قربني سيدي عمر إليه بلطف وكرر قوله: (انك تستطيع ان ترى، يابني، اننا قد اقتربنا فعلاً من نهاية أجلنا) ثم اضاف: (اننا نقاتل لأن علينا ان نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة او نموت نحن وليس لنا ان نختار غير ذلك. إنا لله وإنا إليه راجعون – لقد ارسلنا نساءنا واولادنا الى مصر كيما نطمئن على سلامتهم متى شاء الله لنا أن نموت).
– قلت: (ولكن ياسيدي عمر، اليس من الافضل لك وللمجاهدين ان تنسحبوا الى مصر بينما لايزال هناك طريق مفتوح امامكم؟ فلقد يكون من الممكن في مصر جمع المهاجرين الكثيرين من برقة وتنظيم قوة اكثر فعالية وجدوى. ان القتال هناك يجب ان يوقف بعض الوقت حتى يستعد الرجال شيئاً من قوتهم … انا اعرف ان البريطانيين في مصر لاينظرون بعين الرضى الى وجود قوات ايطالية راسخة الاقدام على خاصرتهم، فقد يغضون الطرف، والله اعلم، عن استعداداتكم فيما اذا اقنعتموهم بانكم لا تعتبرونهم اعداء…).
– المختار: (كلا ياابني، لم يعد هذا يجدي الآن. ان ماتقوله كان ممكناً منذ خمس عشرة او ست عشرة سنة، قبل ان يقوم السيد احمد، اطال الله عمره، بمهاجمة البريطانيين كي يساعد الاتراك – الذين لم يساعدونا … أما الآن فلم يعد في الامر مايجدي.. ان البريطانيين لن يحركوا اصبعاً لكي يسهلوا علينا امرنا، والايطاليون مصممون على ان يقاتلونا حتى النهاية، وعلى سحق كل إمكانية للمقاومة في المستقبل، فاذا ذهبت واتباعي الآن الى مصر، فاننا لن نتمكن مطلقاً من العودة ثانية، وكيف نستطيع ان نتخلى عن قومنا ونتركهم ولا زعيم لهم، لاعداء الله يفترسونهم؟).
– قلت :” ما قول السيد ادريس؟ هل يشاركك الرأي ياسيد عمر ؟”
– المختار: (إن السيد ادريس رجل طيب. انه ولد طيب لوالد عظيم، ولكن الله لم يعطه قلباً يمكنه من تحمل مثل هذا الصراع…).
قدم لهم رجال المختار بعض التمر ودعاهم المختار الى ذلك الطعام البسيط فأكلوا، ونهض قائد المجاهدين وقال: (آن لنا أن نتحرك من هنا. اننا على مقرب من المركز الايطالي في بوصفية، ولذا لا نستطيع ان نتأخر حتى الفجر..).
اتفق عمر المختار مع محمد اسد على طريقة امداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح عن طريق الطريق التي جاء منها محمد اسد، مع انشاء مستودعات سرية في واحات بحرية وفرفرة وسيوه ، وكان عمر المختار يشك في امكانية الافلات من مراقبة الايطاليين بهذه الطريقة مدة طويلة، وقد تبين بعد ذلك ان ظنونه ومخاوفه كانت في محلها، ذلك انه بعد بضعة اشهر تمكنت قافلة تحمل المؤمن والذخائر من الوصول فعلاً الى المجاهدين ، إلا ان الايطاليين اكتشفوها.
يقول محمد اسد: وودعت وزيد عمر المختار، ولم نره بعد ذلك اطلاقاً، ذلك انه بعد ثمانية أشهر، قبض عليه الايطاليون واعدموه.
ظل المختار في الجبل الاخضر يقاوم الطليان على الرغم من كل الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله.
كانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز اقامته الى المراكز الاخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد احوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر.
أراد الله أن يختم له بالشهادة فذهب في تلك السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمائة فارس، ولكنه عاد فرد من هذا العدد ستين فارساً وذهب في اربعين فقط.
يوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لابد من اجتيازه ، فمر به عمر المختار ومن معه ، وباتوا فيه ليلتين.
علمت بهذا ايطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان ، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ماعندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو.
قرر منازلة الاعداء وجهاً لوجه فإما أن يشق طريقاً يمكنه من النجاة أو يلقى ربه شهيداً في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عدداً كبيراً من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها ، ولم تسعفه يده الجريحة .
التفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت) ، فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم وكان ابن قويرش اول من قتل وهو يحاول انقاذ الشيخ الجليل.
هجم جنود الطليان على الاسد الجريح دون ان يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الاسير وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار الى ميناء سوسة محاطاً بعدد كبير من الضباط والجنود الايطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم الى سوسة ومن ثم نقل فوراً الى بنغازي عن طريق البحر.
عندما وصل الاسير الى بنغازي لم يسمح لأي مراسل جريدة او مجلة بنشر اخبار او مقابلات وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه ان يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدججين بالسلاح ونقل فوق سيارة السجن تصحبه قوة مسلحة بالمدافع الرشاشة حيث اودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين وتحت حراسة شديدة وجديدة.
يقول مترجم كتاب برقة الهادئة الاستاذ ابراهيم سالم عامر: “كنت من الذين أسعدهم الحظ على ان يتكلموا مع بطل الجهاد عمر المختار اثناء قيامه في السجن فقد أوقفوا كل الاهالي المعتبرين في مراكز الامن والسجون وكان نصيبي في سجن بنغازي المركزي وعندماأتى بعمر المختار غيروا الحراس المحليين بحراس أريتريين والموظفين بالايطاليين من الحزب الفاشيستي وبعد ان اودعوه في الزنزانة كان هناك سرير من خشب وقماش وعلى الارض قطعة من السجاد البالي لأجل وقع الرجلين عليه فسحبها الشهيد بقرب الجدران وجلس عليها واستند على الجدران ومد رجليه الى الامام وعندما كان مدير السجن يتجول على زنزانات السجناء رأى الشهيد جالساً على الارض ولم يستطيع ان يساله لماذا هو جالس على الارض. ولأن المدير لايعرف العربية فناداني من بين السجناء السياسيين وطلب مني ان اترجم سؤاله فسألت الشهيد، فاجاب بصوت هادر كالأسد الهصور: “قل له أنا اعرف اين اجلس لا يحمل هماً فهذا ليس من شأنه” فترجمت الكلام فانصعق المدير واصفر وجهه وقال هيا ارجع الى مكانك بلهجة الامر غير ان قلبي كاد يطير من صدري فرحاً عندما سمعت هذه الاجابة القاطعة رحم الله عمر المختار كم كان عظيماً وهو قائم واعظم وهو اسير”.
اراد الكمندتور رينسي (السكرتير العام لحكومة برقة) في أمسية الرابع عشر من سبتمبر أن يقحم الشارف الغرياني في موقف حرج مع عمر المختار وهو في السجن وابلغ الشارف الغرياني بأن المختار طلب مقابلتك والحكومة الايطالية لاترى مانعاً من تلبية طلبه، وذهب الشارف الغرياني الى السجن لمقابلة الشيخ الجليل وعندما ألتقيا خيم السكوت الرهيب ولم يتكلم المختار فقال الشارف الغرياني هذا المثل الشعبي مخاطباً به السيد عمر (الحاصلة سقيمة والصقر مايتخبل) وماكاد المختار يسمع المثل المذكور حتى رفع رأسه ونظر بحدة الى الشارف الغرياني وقال له: (الحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه) وسكت هنيئة ثم اردف قائلاً: (رب هب لي من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أنني لم أكن في حاجة الى وعظ او تلقين، أنني أومن بالقضاء والقدر، وأعرف فضائل الصبر والتسليم لإرادة الله ، أنني متعب من الجلوس هنا فقل لي ماذا تريد)، وهنا أيقن الشارف الغرياني بأنه غرّر به فزاد تأثره وقال للمختار: ماوددت أن أراك هكذا ولقد أرغمت نفسي للمجيء بناءً على طلبك… فقال الشيخ الجليل، والجبل الشامخ (أنا لم أطلبك ولن أطلب أحداً ولا حاجة لي عند أحد)، ووقف دون أن ينتظر جواباً من الشارف الغرياني، وعاد الاخير الى منزله وهو مهموم حزين وقد صرّح بأنه شعر في ذلك اليوم بشيء ثقيل في نفسه ما شعر به طيلة حياته، ولما سئل الشارف الغرياني عن نوع الثياب التي كان يرتديها عمر المختار أهي ثياب السجن ام ثيابه التي وقع بها في الاسر كان جوابه هو البيتان الآتيان مستشهداً بهما:
عليه ثياب لو تقاس جميعها… بفلسٍ لكان الفلس منهن اكثرا
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها… نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
● اراد المولى عز وجل لحكمة يريدها أن يقف البطل الأشم والطود الشامخ الذي حير ايطاليا وأشاع الرعب في قلوب جيوشها، أمام الرجل التافه الحقير المدعو غراسياني الذي كان اول من صفق وقرع الطبول للزعامة الجديدة، وصار فاشيستياً أكثر من الفاشيستيين أنفسهم.
● من اجل لقاء المختار دفعت الشماتة هذا غراسياني الحقير أن يقطع رحلته الى باريس وان يعود فوراً الى بنغازي، وأن يدعوا المحكمة الطائرة الى الانعقاد ودفعت غريزة الشماته غراسياني أن يستدعي البطل في صبيحة اليوم نفسه، وقبل المحاكمة بقليل.
● يقول غراسياني في مذكراته : (وعندما حضر امام مدخل مكتبي تهيأ لي أني ارى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم اثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالاجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال منظره وهيبته رغم إنه يشعر بمرارة الاسر. هاهو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ، وواضح وكان ترجماني المخلص النقيب (كابتن) خليفة خالد الغرياني الذي احضرته معي خصيصاً من طرابلس)
_____________________________________*صورة للشيخ المجاهد رحمه الله بعد وقوعه أسيراً
غراسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشيستية؟
المختار: لأن ديني يأمرني بذلك.
غراسياني: هل كنت تأمل في يوم من الايام أن تطردنا من برقة بامكانياتك الضئيلة وعددك القليل؟
المختار: لا هذا كان مستحيلاً.
غراسياني: إذاً ماالذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
المختار: لا شيء إلا طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون ، أما الحرب فهو فرض علينا وماالنصر إلا من عند الله.
غراسياني: لكن كتابك يقول: {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} بمعنى لاتجلبوا الضرر لأنفسكم ولا لغيركم من الناس، القرآن يقول هذا.
المختار: نعم.
غراسياني: إذاً لماذا تحارب؟
المختار: كما قلت من أجل وطني وديني.
غراسياني: أنت تحارب من أجل السنوسية تلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء وفي الوقت نفسه كانت المنظمة تستغل أموال الناس بدون حق هذا هو الحافز الذي جعلك تحاربنا لا الدين والوطن كما قلت .
المختار نظر اليه نظرة حادة كالوحش المفترس وقال: لست على حق فيما تقول ولك أن تظن ماظننت ولكن الحقيقة الساطعة التي لا غبار عليها أنني أحاربكم من أجل ديني ووطني لا كما قلت.
غراسياني: لماذا قطعت المهادنة السارية وامرت بالهجوم على (قصر بن قدين)؟
المختار: لأنه منذ شهر ارسلت الى المارشال (بادوليو) ولم يجيبني عنها وبقيت بدون رد حتى الآن.
غراسياني: لا، أنت أردت قطع المهادنة لحاجة في نفسك وهاك الدليل. فقرأ له البيان الذي نشره فوق الجرائد المصرية بتوقيعه.
المختارلم يرد في بادئ الأمر وحنى رأسه مفكراً ثم قالL نعم نشرت البيان في مصر بتوقيعي ولكن ليس هذا هو الدليل وإنما هو عدم تجاوبكم معنا في تنفيذ شروط الهدنة) ولم يزد شيئاً بل حنى راسه اعياء.
غراسياني: هل أمرت بقتل الطيارين هوبر وبياتي؟
المختار: نعم: كل الاخطاء والتهم في الواقع هي مسؤولية الرئيس والحرب هي الحرب.
غراسياني: هذا صحيح لو كانت حرباً حقيقية لا قتل وسلب مثل حروبك.
المختار: هذا رأي، فيه إعادة نظر وانت الذي تقول هذا الكلام ولازلت أكرر لك الحرب هي الحرب.
غراسياني: بموقفك في موقعة (قصربن قدين) ضيعت كل أمل وكل حق في الحصول على رحمة وعفو الحكومة الايطالية الفاشيستية.
المختار: مكتوب ،وعلى كل عندما وقع جوادي وألقي القبض عليّ كانت معي ست طلقات وكان في استطاعتي أن أدافع عن نفسي وأقتل كل من يقترب مني حتى الذي قبض عليّ وهو أحد الجنود من فرقة الصواري المتطوعين معكم وكان في إمكاني كذلك أن أقتل نفسي.
غراسياني: ولماذا لم تفعل؟
المختار: لأنه كان مقدراً أن يكون، كما ترى أنا طاعن في السن على الاقل اتركني بأن أجلس .
غراسياني يقول: أشرت له فجلس على كرسيه أمام مكتبي وفي هذه الاثناء ظهر لي وجهه بوضوح وقد زالت رهبة الموقف وقد تأملته جانبياً فرأيت بعض الاحمرار في وجهه وبدأت أفكر كيف كان يحكم ويقود المعارك. وبينما هو يتكلم كانت نظراته ثابتة الى الامام وصوته نابع من أعماقه ويخرج من بين شفتيه بكلمات ثابتة وبكل هدوء وفكرت ثانية هذا هو القديس، لان كلامه عن الدين والجهاد يدل بكل تأكيد أنه مؤمن صادق يتكلم عن الدين بكل حماس وتأثر . ثم قلت له فجأة: بمالك من نفوذ وجاه كم يوم يمكنك أن تأمر العصاة (يعني المجاهدين) بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا اسلحتنا وينهوا الحرب؟
المختار: مجيباً أبداً كأسير لايمكنني أن أعمل أي شيء، وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر ولانسلّم أو نلقى السلاح وأنا هنا لم يسبق لي أن استسلمت هنا على ماأظن حقيقي وثابت عندكم.
غراسياني: يمكن ذلك لو تم تعارفنا في وقت سابق والخبرة طويلة التي أخذتها عليكم لكان علينا ان نصل الى احسن حال في سبيل تهدئة البلاد وازدهارها.
المختار رفع حاجيبه بكل عمق وبصوت جهوري، وثابت قال: (ولم لا يكن اليوم هو ذلك اليوم الذي تقول عنه؟).
غراسياني:لقد فات الأوان، هل تعرف هذه؟ (نظارات المختار ذات الإطار الفضي)
المختار: نعم إنها لي وقد وقعت مني اثناء احدى المعارك وهي معركة (وادي السانية).
غراسياني: منذ ذلك اليوم اقتنعت بأنك ستقع أسيراً بين يدي.
المختار: مكتوب : هل ترجعها لي لأني لم أعد أبصر جيداً بدونها. ولكن ما الفائدة منها الآن هي وصاحبها بين يديك.
غراسياني: مرة اخرى أنت تعتبر نفسك محمياً من الله تحارب من أجل قضية مقدسة وعادلة؟
المختار: نعم وليس هناك أي شك في ذلك. قال الله تعالى: { قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا} صدق الله العظيم.
غراسياني: إذاً استمع الى ماأقوله لك. أمام قواتي المسلحة من نالوت الى الجبل الاخضر في برقة كل مشايخ ورؤساء العصاة (يعني رؤساء المجاهدين) منهم من هرب ومنهم من قتل في ميدان القتال ولم يقع منهم أي احد حياً في يدي أليس من العجيب أن يقع أسيراً بين يدي حياً من كان يعتبر اسطورة الزمن الذي لم يغلب ابداً المحمي من الله دون سواه؟؟
المختار: تلك مشيئة الله … قالها بصوت يدل على قوة وعزم.
غراسياني: الحياة وتجاربها تجعلني أعتقد وأؤمن بأنك كنت دائماً قوياً ولهذا فإني أتمنى أن تكون كذلك مهما يحدث لك ومهما تكن الظروف.
ثم قال غراسياني: (وقف ليتهيأ للانصراف ، وكان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض المعارك والحروب العالمية ، والصحراوية ، ولقبت باسد الصحراء، ورغم هذا فقط كانت شفتاي ترتعشان ولم استطع أن أنبس بحرف واحد فأنتهت المقابلة وأمرت بإرجاعه الى السجن لتقديمه للمحاكمة في المساء وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانت مكبلة بالحديد، لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير).
قال شوقي رحمه الله:
وأتى الأمير يجرُّ ثقل حديده … أسدٌ يُجرجر حَية رقطاءَ
● في الساعة الخامسة مساءً في 15 سبتمبر 1931م جرت تلك المحاكمة التي أعد لها الطليان مكان بناء (برلمان برقة) القديم وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعاً، و دليل ذلك أن الطليان قبحهم الله كانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا (المشنقة) وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره، وإنك لتلمس ذلك في نهاية الحديث الذي دار بين البطل وبين غراسياني حيث قال له (إني لأرجو أن تظل شجاعاً مهما حدث لك أو نزل بك). إنها لكلمات تفوح بالخبث والدناءة والشماتة، ومعناها إنك يامختار سوف تعدم شنقاً، فلا تجبن أمام المشنقة ، ولكن شيخنا الجليل وأستاذنا الكريم وقائد الجهاد يزداد سمواً بعد سمو ثم يقول (إن شاء الله).
● يصف الدكتور العنيزي ذلك فيقول :جاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلاً بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب .. وكان مكاني في القاعة بجوار السيد عمر وأحضر الطليان أحد التراجمة الرسميين واسمه نصرت هرمس، فلما افتتحت الجلسة وبدأ استجواب السيد، بلغ التأثر بالترجمان، حداً جعله لايستطيع إخفاء تأثره وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة بإستبعاده وإحضار ترجمان آخر فوقع الاختيار على أحد اليهود، وهو لمبروزو، من بين الحاضرين في الجلسة، وقام لمبروزو بدور المترجم، وكان السيد عمر رحمه الله جريئاً صريحاً، يصحح للمحكمة بعض الوقائع.
● بعد استجواب السيد ومناقشته وقف المدعي العام بيدندو، فطلب الحكم على السيد بالإعدام.
● جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن السيد عمر وكان ضابطاً إيطالياً يدعى الكابتن لونتانو، وقف وقال: (كجندي لا أتردد البته إذا وقعت عيناي على عمر المختار في ميدان القتال، في إطلاق الرصاص عليه وقتله وافعل ذلك كإيطالي أمقته وأكرهه، ولكنني وقد كلفت الدفاع عنه فإني اطلب حكماً، هو في نظري أشد هولاً من الإعدام نفسه، وأقصد بذلك الحكم عليه بالسجن مدى الحياة نظراً لكبر سنه وشيخوخته)، عندئذ تدخل المدعي العمومي، وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته مستنداً في طلبه هذا إلى أن الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن عمر المختار وشيخوخته ووافقت المحكمة.
● أمر القاضي المحامي بأن لايخرج عن الموضوع ويتكلم بإيجاز، وهنا تكلم المحامي بحدة وقال: (إن عمر المختار الذي هو أمامكم وليد هذه الأرض قبل وجودكم فيها ويعتبر كل من احتلها عنوة عدو له ومن حقه أن يقاومه بكل مايملك من قوة حتى يخرجه منها أو يهلك دونها هذا حق أعطته له الطبيعة والإنسانية) وهنا كثر الصياح من الحاضرين بإخراج المحامي وإصدار الحكم على المتهم الذي طالب به المدعي العام.
● استمر المحامي قائلاً : (العدالة الحقة لاتخضع لأي سلطان ولا لأية غوغاء وإنما يجب أن تنبع من ضميرنا وإنسانيتنا) وهنا قامت الفوضى خارج المحكمة، وقام المدعي العام محتجاً على المحامي، ولكن المحامي استمر في دفاعه غير مبال بكل هذا بل حذر القاضي أن يحكم ضميره قائلاً: (إن هذا المتهم عمر المختار الذي انتدبت من سوء حظي أن أدافع عنه شيخ هرم حنت كاهله السنون وماذا بقي له من العمر بعد ما أتم السبعين سنة وإني أطلب من عدالة المحكمة أن تكون رحيمة من (تحقيق) العقوبة عنه لأنه صاحب حق ولايضر العدالة إذا انصفته بحكم أخف وإنني أحذر عدالة محكمتكم حكم التاريخ لأنه لايرحم فهو عجلة تدور وتسجل كل مايحدث في هذا العالم المضطرب) وهنا كثر الضجيج في الخارج ضد المحامي ودفاعه.
● استمر المحامي في دفاعه قائلاً: (سيدي القاضي حضرات المستشارين لقد حذرت المحكمة من مغبة العالم الإنساني والتاريخ وليس لدي ما أضيفه إلاّ طلب تخفيف الحكم على هذا الرجل صاحب الحق من الذود عن أرضه ودينه وشكراً).
● عندما قام النائب العام لمواصلة احتجاجه قاطعه القاضي برفع الجلسة للمداولة وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضي والمستشاران والمدعي العام بينما المحامي لم يحضر لتلاوة الحكم القاضي بإعدام عمر المختار شنقاً وعندما ترجم الحكم إلى عمر المختار قهقه بكل شجاعة قائلاً: (الحكم حكم الله لاحكمكم المزيف – إنا لله وإنا إليه راجعون).
● أراد رئيس المحكمة أن يعرف ماقاله السيد عمر .. فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل، وعندئذ، بدا التأثير العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحكمة الصورية وأظهروا إعجابهم لشجاعة شيخ المجاهدين بليبيا الحبيبة وبسالته في آن واحد.
● المحاكمة استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة ، من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة السادسة والربع وكذلك قضت إرادة الله تعالى أن يتحكم الطليان في مصير البطل، لتتم الإرادة الإلهية وتمضي الحكمة الربانية.
● في يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931 عند الساعة التاسعة صباحاً نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الاعدام شنقاً في شيخ الجهاد وأسد الجبل الاخضر بعد جهاد طويل ومرير .
● دفعت الخسة بالايطاليين أن يفعلوا عجباً في تاريخ الشعوب ، وذلك انهم حرصوا على ان يجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ فأرغموا أعيان بنغازي، وعدداً كبيراً من الاهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ فحضر مالا يقل عن عشرين الف نسمة.
● ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين الى حبل المشنقة ، وقد ضل المختار يردد الشهادتين أشهد ان لااله الا الله ، وأشهد ان محمد رسول الله.
● كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشاراً بالشهادة وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله الى موقع المشنقة اخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الاعدام على إنخفاض، وبصوت مدوي لمنع الاهالي من الاستماع الى عمر المختار اذا ربما يتحدث اليهم او يقول كلاماً يسمعونه وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء .
● هناك اعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة الى ربها راضية مرضية ، هذا وكان الجميع من اولئك الذين جاءوا يساقون الى هذا المشهد الرهيب ينظرون الى السيد عمر وهو يسير الى المشنقة بخطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه.
● سمعه بعض المقربين منه ومنهم ليبيون بينما هو يصعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية}.
● لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه لقد كان يقول (اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة).
ولتظل كلماته رحمه الله خالدة يتناقلها أحفاده وكل من سار على دربه ،،
(سيكون عُمْري أطول من عُمْر شانقي )
اضغط على هذه الصورة لرؤيتها بحجمها الطبيعي
وصفه أحد الإيطاليين قائلاً (كان عمر المختار مخلصاً وذكياً، وكان عقل الثورة وقلبها ببرقة).
قال آخر: (كان انجازه رائعاً، فقد حارب إيطاليا الفاشستية تسع سنوات من حرب فدائية لم تكن ضعيفة في ذاتها وكان التحدي والتضحية والاستشهاد بالنفس عند عمر المختار واتباعه شيئاً نبيلاً).
ركزوا رفاتك في الرمال لواء … يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا مناراً من دم … يوحي إلى جيل الغد البغضاء
ماضر لو جعلوا العلاقة في غد … بين الشعوب مودة وإخاء
جرح يصيح على المدى وضحية … تتلمس الحرية الحمراء
يا أيها السيف المجرد بالفلا … يكسو السيوف على الزمان مضاء
خيرت فأخترت المبيت على الطو … لم تبن جاها أو تلم ثراء
إن البطولة أن تموت على الضما … ليس البطولة أن تعب الماء
افريقيا مهد الأسود ولحدها … ضجت عليك أراجلا ونساء
والمسلمون على اختلاف ديارهم … لايملكون مع المصاب عزاء
والجاهلية من وراء قبورهم … يبكون زيد الخيل والفلحاء
في ذمة الله الكريم وحفظه … جسد ببرقة وسد الصحراء
الأسد تزأر في الحديد، ولن ترى … في السجن ضرغاما بكى استخذاء
وأتى الأسير يجر ثقل حديده … أسد يجرجر حية رقطاء
عضت بساقيه القيود فلم ينوء … ومشت بهيكله السنون فناء
سبعون لو ركبت مناكب شاهق … لترجلت هضباته أعياء
خفيت عن القاضي،وفات نصيبها … من رفق جند قادة نبلاء
والسن تعطف كل قلب مهذب … عرف الجدود وأدرك الآباء
دفعوا إلى الجلاد أغلب ماجدا … يأسو الجراح ويطلق الاسراء
ويشاطر الأقران ذخر سلاحه … ويصف حول خوانه الأعداء
وتخيروا الحبل المهين منية … لليث يلفظ حوله الحوباء
يا أيها الشعب القريب أسامعُ … فأصوغ في عمر الشهيد رثاء
أم الجمت فاك الخطوب وحرمت … أذنيك حين تخُاطبُ الأصغاء
ذهب الزعيم وأنت باق خالدُ … فانقد رجالك واختر الزعماء
وأرح شيوخك من تكاليف الوغى … وأحمل على فتيانك الأعباء
ليس عمر المختار رحمه الله أول من جاهد ولا أول من استشهد ولكن كان حاله كما قال تعالى : {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} .
مفتاح شخصيته الفذة أنه آمن بالله واستقرت معانيه في قلبه فأصبح لايخشى إلا الله وهذا الصنف من المسلمين هو اقوى ماعرفته البشرية وهو الانسان الحر في أعلى معاني الحرية.
الفريد في سيرته ، أنه أحيا شيئاً كاد يندثر ، أحيا معاني الايمان التي كان الناس قد بدأوا ينصرفون عنها إنه بنيان اسس على التقوى فعاش مباركاً في حياته وفي مماته.
كان داعيا الى الله بإذنه ، تربى على ايدي دعاة السنوسية فلما اكتمل وترعرع ، ادى الرسالة وبلغ الامانة وأنذر وبشر، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه.
كان على فهم صحيح لدينه، يأخذ كلاً لايتجزأ، فلا هو بالتدين المنحرف، ولا هو بالتدين البعيد عن جوهر الدين ، وإنما هو رجل مؤمن، يعلم ان الاسلام لايصح أن يؤخذ بعضه ويترك بعضه، وإنما عليه أن يعمل به كله.
كان في حرارة الشباب وحيويتهم رغم شيخوخته وتلك طبيعية المقاتلين في سبيل الله
لم يسع للشهرة ، لان المخلصين لايبحثون عن الشهرة وإنما يبحثون عن رضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك جعل الله له ذكراً في الدنيا ونسأل الله أن يتغمده برحمته في الآخرة.
رحم الله شيخ المجاهدين عمر المختار
ما أعذب الحديث عنه وعن بطولاته وجهاده ضد المحتلين الغاشمين
وها نحن اليوم نرى أحفاده الأبطال يناضلون لتحرير بلادهم من احتلال آخر
فنسأل الله أن يرحم موتاهم، ويتقبل شهدائهم، ويشف مرضاهم، ويداو جرحاهم
نسأل الله أن يوحد صفوفهم ويجمع كلمتهم، ويعلي رايتهم ويدحر عدوهم
آمين
كتاب الكتروني بعنوان البطل في التاريخ الدكتور محمد الجراري
كتاب الكتروني : lion of the desert
كتاب الكتروني بعنوان عمر المختار للدكتور علي الصلابي
موقع إسلام اون لاين
موقع إسلام ويب
موقع الموسوعة العربية