المظفر سيف الدين قـطــز [رَجُــلٌ بــِـــــأمَّـــــــة][6]
ملاحظة هامة: إخواني الكرام هذا الموضوع ليس مني بل من صديقي العزيز أبو عبد الله { رحمه الله} الذي وافته المنية يوم أمس أي يوم الجمعة بتاريخ: 20/4/2012 لذا أتمنى منكم بأن تدعو له بالمغرة و أن يصبر أهله و أن تنشرو هذا الموضوع في كل المنتديات التي تعرفونها ليكون صدقة جارية له بإذن الله تعالى و ينتفع بها المؤمنون و المسلمون في كل بقاع الأرض
للعلم لديه مواضيع كثيرة سأقوم بنشرها قريبا
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،، وبعد..
فاستكمالاً لما بدأه أخي العزيز أبو عبدالله البلجيكي رحمه الله وغفر له من هذه السلسلة المباركة (رجل بأمة) قام عدد من الإخوة في المركز الإسلامي ببلجيكا بإكمال السلسلة وترجمتها لعدة لغات ونشرها كمطويات يتم توزيعها .. أسأل الله عزوجل أن ينفع بها ويجعلها في موازين حسنات صاحبها..
أراد الله عز وجل للإسلام أن ينتصر، فقيض الله للأمة ذلك السلطان الرباني الذي هزم التتار وطهر الشام منهم في المعركة الشهيرة عين جالوت، إنه السلطان سيف الدين قطز…
لقد دخل سيف الدين قطز إلى رحاب التاريخ من باب الرق والعبودية الضيق، وسرعان ما فُتحت أمامه أبواب تاريخ المسلمين الواسعة مرحّبة، عندما كرّس مواهبه العسكرية والسياسية لخدمة الدفاع عن المقدسات، وطالت قامته التاريخية على كثيرين من الحكام عندما تجسدت في شخصه إرادة أمة الإسلام في معركة عين جالوت، التي كسرت الموجة المغولية الطاغية، والتي كانت بداية سلسلة من التغيرات كان أهمها تحوّل المغول إلى الدين الإسلامي، بحيث صاروا قوّة فاعلة في بناء حضارته.
- مقدمة
- من هو سيف الدين قطز؟
- التعريف بالمماليك
- بداية ظهور قطز في المشهد التاريخي
- قصة شجرة الدر
- ولاية العهد
- الغزو التتري لبلاد الشام
- قطز سلطاناً على مصر
- توطيده للخلافة
- سقوط دمشق وحلب في يد التتار
- تهديد التتار المباشر لمصر
- الإعداد للجهاد
- إعلان الجهاد ضد التتار
- معركة عين جالوت ونتائجها
- وفاته
- الخاتمة
- شكرُ وتقدير
فكرة المشروع: aboabdullah رحمه الله إعداد الموضوع: شباب المركز الإسلامي ببلجيكا تدقيق وتنسيق: aboalwleed تصميم الفواصل: لƒ¦ ليـــان لƒ¦
أهمية الفترة التي ظهر فيها قطز:
لقد كانت الفترة التاريخية التي ظهر أثناءها البطل سيف الدين قطز تشكل منعطفاً تاريخياً هاماً في تاريخ أمة المسلمين، إذ كان الوجود الصليبي الكاثوليكي ما يزال جاثماً على الأرض الإسلامية ببلاد الشام، وعلى الرغم من الدور الرائع الذي قام به المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي لتقليص اللون الصليبي فوق خريطة الأرض الإسلامية، فإن سياسات خلفائه المهادِنة المتخاذلة مدّت في عمر الكيان الصليبي مائة سنة أخرى، بل إن أوروبا كانت ما زالت تحدوها الروح العدوانية لتدعيم الوجود الفرنجي على الأرض الإسلامية، وانتزاع المزيد من أراضي المسلمين لصالح الاستيطان والتوسع الأوروبي، فكانت الحملة التي قادها لويس التاسع ضد مصر، والتي عرّفها مؤرّخو حروب الفرنج الصليبيين باسم الحملة الصليبية السابعة.
من هو سيف الدين قطز:
اسمه وأصله: محمود بن ممدود وهو من بيت مسلم ملكي.. وهو ابن أخت جلال الدين الخوارزمي.. ملك الخوارزميين المشهور، والذي قاوم التتار فترة وانتصر عليهم ثم هُزِمَ منهم، وفرَّ إلى الهند، وعند فراره إلى الهند أمسك التتار بأسرته فقتلوا بعضهم واسترَقّوا بعضهم.
نشأته:كان محمود بن ممدود أحد أولئك المماليك الذين استرقَّهم التتار، وأطلقوا عليه اسمًا مغوليًّا هو قطز، وهي كلمة تعني الكلب الشرس، ويبدو أنه كانت تبدو عليه من صغره علامات القوة والبأس، ثم باعه التتار في أسواق الرقيق في دمشق واشتراه أحد الأيوبيين، وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك ليصبح أكبر قواده.
صفاته: وُصف قطز بأنه كان شاباً أشقر، كث اللحية، بطلاً شجاعاً عفاً عن المحارم، مترفعاً عن الصغائر مواظباً على الصلاة والصيام وتلاوة الأذكار، وكان فارسًا، سائسًا، دينًا، محببًا إلى الرعية.
من هم المماليك؟
مصطلح فرض نفسه على تاريخ مصر طوال فترة تزيد على ثلاثة قرون من الزمان، لاسيما بعد أن نجحوا في بناء دولة عظمى حكمت مصر والشام والحجاز بشكل مباشر.
كان المماليك من الرقيق ، بيد أنهم كانوا من نوع خاص إذ كانوا يُجلبون أطفالاً من أسواق النخاسة ثم يعهدون بهم إلى من يعلمهم اللغة العربية ويلقنهم مبادئ الدين الإسلامي ثم يعهد بهم إلى من يتولى تدريبهم على فنون القتال والفروسية، وفي زمن كان للقوة العسكرية الدور الأكبر في حسم مصائر الحكام والمحكومين، وكان أولئك المماليك من عناصر عرقية مختلفة، من الترك والمغول والتتار والصقالبة والأسبان والألمان والجراكسة وغيرهم من العبيد البيض.
بداية ظهوره في المشهد التاريخي:
كان أول ظهور له على صفحات التاريخ ما ذكرته المصادر من اشتراكه في قتل فارس الدين أقطاي الذي كان الملك المعز قد أعد المؤامرة للتخلص منه، وبعد ذلك بدأ قطز يشق طريقه على الطريقة المملوكية صوب العرش الذي جلس عليه سيده المعز.
ملخص بسيط لقصة شجرة الدر:
في خضم الصراع ضد الصليبيين الذين ضمتهم الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع توفي السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وقامت زوجته شجر الدر بإدارة شؤون الحكم والحرب بمساعدة كبار أمراء المماليك، وحين تولى “توران شاه” ابن الصالح نجم الدين أيوب عرش البلاد اصطدم بطموح زوجة أبيه شجر الدر من ناحية، وبقوة المماليك ونفوذهم المتصاعد من ناحية أخرى، وانتهى الصدام بمصرعه على نحو مأساوي مروّع، ثم ارتقت العرش شجر الدر لتكون أولى سلاطين المماليك في مصر والشام.
انتهى الحكم الأيوبي في مصر مع تبدد دماء الملك “توران شاه”، واختار المماليك أرملة السلطان الأميرة “شجر الدر” لتولي عرش السلطة الشاغر.
عارض الفقهاء والعلماء جلوس شجر الدر على عرش السلطة؛ لأنه أمر يتنافى مع نظام الحكم في الإسلام، ثم جاء رد الخليفة العباسي برفض المساندة الشرعية لحكم هذه السلطة ساخراً حاسماً، تقول كلماته: “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلا” عندها أدركت السلطانة وأدرك زعماء المماليك أنهم يسبحون ضد تيار عارم لابد وأن يغرقهم في موجاته، وبعد ثمانين يوماً تنازلت شجر الدر عن الحكم لواحد اختارته بعناية من أضعف أمراء المماليك هو المعز التركماني، وقبل أمراء المماليك الأقوياء زواجه من شجر الدر وجلوسه على عرش الحكم، وأصبحت شجر الدر العقبة الكؤود أمام الملك المعز فقد كانت هذه المرأة تتحكم بمقدرات البلاد، سئم المعز بدوره تصرفاتها فعزم على فراقها، والاقتران بغيرها، وعلمت هي بذلك وأول ما فكرت فيه أن عرضت نفسها على الملك الناصر الأيوبي، صاحب دمشق وحلب، ووعدته بقتل زوجها، إن رضي بالاقتران بها، وأغرته بعرش مصر، لكنه كان أذكى من أن يقترن بامرأة قتلت رجلين وتعد العدة لقتل الثالث فتجاهلها تماماً، ولم تكن نواياها بخافية على المعز فصمم على إخراجها من القلعة، ولكنه لم يكن حازماً في تنفيذ أفكاره، فأجل التنفيذ أياماً كان فيها هلاكه، وغادر القلعة مغاضباً، فأجمعت أمرها على الفتك به سريعاً، ولم يصعب عليها إرسال من يسترضيه تمهيداً لاستدراجه إلى القصر، وحضر الزوج بعد أن صدقها، فكان عبيدها له بالمرصاد فقتلوه في حمامه.
قطز وليا للعهد:
كان مقتل المعزّ بأمر من زوجته شجرة الدر يوم الأربعاء 25 ربيع الأول سنة 655 هـ. وحين ذاع الخبر في صباح اليوم التالي وعلم ولده نور الدين علي ومملوكه سيف الدين قطز أكبر مماليكه وأحبهم إلى قلبه بما حدث، أسرعا مع جماعة من المماليك إلى القصر السلطاني رغبة في الانتقام من شجر الدر، وبالفعل تم القبض عليها وحملها المماليك إلى ضرّتها، زوجة المعز الأولى وأم ولده علي , فتم قتلها، وبدأت صفحة جديدة في تاريخ مصر، تعد من أكثر الصفحات تشويقاً وإثارة وعنفاً.
بعدها اتفق الأمراء في مصر على تنصيب ابنه سلطاناً على مصر وسموه الملك المنصور نور الدين علي وجعلوا الأمير قطز نائباً له ومدبراً لمملكته، لكن السلطان الجديد لم يكن بمستوى المسؤولية، تاركاً لأمه ومن وراءها تسيير أمور الدولة في تلك الأوقات العصيبة، وقد استمر هذا الوضع الشاذ قرابة ثلاث سنوات، على الرغم من تعاظم الأخطار وسقوط بغداد بيد المغول، وكان من أشد المتأثرين بذلك والمدركين لهذه الأخطار الأمير قطز، الذي كان يحزّ في نفسه ما كان يراه من رعونة الملك، وتحكم النسوان في مقدرات البلاد، واستبداد الأمراء، وإيثارهم مصالحهم الخاصة على مصلحة البلاد والعباد.
ولم يشأ سيف الدين قطز أن يتعجل الأمور، فأمسك بيده زمام السلطة الفعلية تاركاً للسلطان الصبي شعائر السلطة ولقبها ولا شيء أكثر من ذلك، ومع هذا كانت الدولة التي يحكمها سلطان في سن الصبا واهنة ضعيفة وغير قادرة على تحمل المسؤوليات.
كانت الأحوال تزداد اضطراباً والقلق يفترس نفوس الناس، فقد ملك هولاكو بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وصار المسلمون بغير خليفة للمرة الأولى في تاريخهم، وخرّب التتار الجوامع والمساجد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات واستمروا على ذلك أربعين يوماً،
وخاف الناس بدمشق خوفاً عظيماً عندما علموا أن التتر قد قطعوا نهر الفرات في طريقهم إلى الشام، وسار كثيرون منهم صوب مصر، وكان الوقت شتاءً فمات منهم عدد كبير، ونهب البدو أمتعة كثيرين، وهكذا بدأت الحرب تطل بوجهها المرعب على الساحة السياسية في مصر، وكان نجم تلك الساحة الساطع آنذاك هو الأمير”سيف الدين قطز”.
في القاهرة عُقد مجلس بالقلعة حضره السلطان الصبي الملك المنصور نور الدين علي، وحضره كبار أهل الرأي من الفقهاء والقضاة وكان سيف الدين قطز بين الحاضرين.
وبينما كان هولاكو يجتاح أقاليم العالم الإسلامي الشرقية، كان نجم سيف الدين قطز يزداد سطوعاً وتزداد قامته السياسية طولاً، وكأنه على موعد مع التاريخ لكي ينجز مهمته الكبرى في هزيمة الجحافل التترية الظالمة، واستغل قطز اجتماع القلعة لخلع السلطان الصبي، فأخذ يتحدث عن مساوئ المنصور علي، وجاءت الفرصة عندما خرج أمراء المماليك إلى الصيد، فقبض قطز على الملك المنصور وعلى أخيه وأمهما، واعتقلهم في أحد أبراج القلعة، فكانت مدة حكم المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وصار سلطاناً على الديار المصرية، وجلس على سرير المُلك بقلعة الجبل في نفس اليوم، واتفق الحاضرون على توليته؛ لأنه كبير البيت ونائب الملِك وزعيم الجيش، ومعروف بالشجاعة والفروسية، ورضي به الأمراء الكبار، وأجلسوه على سرير الملك ولقبوه بالمظفر.
ما أن شعر أن سلطته قد رسخت حتى أخذ يتخلص من كل من يمكن أن يشكل تهديداً على عرشه، ومن ناحية أخرى بدأ يختار أركان دولته ويوطّد دعائم حكمه، وتدبير العساكر واستخدام الأجناد، وسائر أمور الجهاد والاستعداد للحرب ضد التتار.
في شهر صفر سنة 658هـ استولى هولاكو على حلب بعد سبعة أيام من الهول والتخريب وسفك الدماء، وأعلن بعض ملوك الأيوبيين خضوعهم له في محاولة لتجنب الخراب الذي حل بمدينة حلب، أما الناصر يوسف (حاكم دمشق وحلب) فقد اضطرب وعزم على قتاله، وضرب معسكره وطلب النجدة من الملك المغيث عمر صاحب إمارة الكرك، والسلطان المظفر قطز، بيد أنه قد استسلم في النهاية، كما تخاذل الأمراء من حوله بشكل أغضب الأمير ركن الدين بيبرس الذي كان قد دخل في خدمة الناصر، وفي الليل حاولت مجموعة من المماليك اغتيال الناصر يوسف، ولكنه نجا من الموت، توجه بعدها بيبرس إلى غزّة، ومن هناك أرسل يطلب الأمان من سيف الدين قطز، ووصل إلى مصر فعلاً فأنزله قطز بدار الوزارة، وأحسن معاملته، أما الناصر فقد سار باتجاه الحدود المصرية حتى غزّة على أمل أن تصله النجدة في وقت مناسب، وفي شهر ربيع الأول سنة 658 هـ استولى المغول على دمشق وتوسل أعيانها إلى هولاكو بعد أن قرروا تسليم المدينة فسيّر طائفة من التتر وأوصاهم بأهل دمشق ونهاهم أن يأخذوا لأحد درهماً فما فوقه، وبينما كانت هذه الأحداث العنيفة تلهب المشهد في المنطقة، مات كبير المغول وكان لا بد لهولاكو من العودة إلى بلاده للمشاركة في اختيار الخان الأعظم الجديد.
وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة ومعهم خطاب منه يفيض غطرسة، تقول بعض كلماته: “فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكى، فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم، وأي بلاد تحميكم، وأيّ ذلك ترى، ولنا الماء والثرى، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تُمنع، والجيوش لقتالنا لا تَنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع؛ لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رد السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون…” إلى آخر تلك الرسالة.
جمع قطز الأمراء وشاورهم في الأمر، فاتفقوا على قتل الرسل المغول، وتم فعلاً القبض على الرسل واعتقلوا، وبدأ قطز في تحليف الأمراء الذين اختارهم، وأمر بأن يخرج الجيش إلى الصالحية ولكن الأمراء كانوا يخشون لقاء المغول بعد أن سمعوا عن الأهوال والمذابح التي ارتكبوها.
بعد أن شاعت في الناس حكايات وأخبار تقترب من الخرافات والأساطير أحضر قطز رسل التتر وكانوا أربعة أفراد فتم توسيط أحدهم، وكان هذا التصرف من جانب سيف الدين قطز إعلان حرب، ونودي في القاهرة وسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله، ويبدو أن الخوف من المغول كان بمثابة القيد الذي أقعد عدداً من الأمراء والجنود عن الخروج لملاقاة العدو، وقال قطز: “أنا متوجه فمن اختار الجهاد فليصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطّلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين” فتكلم الأمراء الذين تخيرهم وحلّفهم في موافقته على السير، فلم يسع البقية إلاّ الموافقة وانفضّ الجمع وفي الليل ركب السلطان وقال: أنا ألقى التتار بنفسي، فلما رأى الأمراء مسير السلطان وعزمه على الحرب خرجوا وهم في حال من التردد.
بدأ قطز بجمع الأموال بناءً على فتوى العز بن عبد السلام؛ لأن خزينة الدولة كانت خاوية لا تفي باحتياجات الجهاد بسبب إتلاف شجر الدر للأموال التي كانت بحوزتها. فقبض على الأمير جمال الدين وصادر كل من وصل إليه من غلمان الملك الناصر وكتّابه وأخذ كل ما يملكون من أموال ومجوهرات وألزم نساءه بإحضار ما لديهنّ من أموال وكانت شيئاً كثيراً، ثم أخذ من نساء الأمراء أموالاً طائلة، وعاقب بعضهنّ حتى أذعنّ وسلّمن الأموال، وعمد إلى جمع الأموال بشتى السبل، فأعاد تقويم الأملاك وأخذ زكاتها من أربابها، وأخذ من كل إنسان في مصر ديناراً واحداً وأخذ من الأتراك المقيمين ثلث دينار، وكان على ثقة بأن التتار سيقرعون باب مصر بالعنف نفسه الذي قرعوا به باب بغداد من قبل، وسيكون مصير القاهرة كمصير بغداد، ولذلك لم يتردد في جمع الأموال؛ لأنها الخطوة الأولى والحاسمة لجمع الجيوش.
قال قطز للأمراء: إن أمامنا اختيار واحد من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء. أما الجلاء عن البلاد، فأمر متعذر؛ لأنه لا يمكن أن نجد لنا سفراً إلاّ إلى المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة. فأجاب ناصر الدين وليس هناك مصلحة في مصالحتهم. فقال الأمراء: “وليس لنا طاقة على مقاومتهم”. عندئذ قال قطز: “إن الرأي عندي أن نتوجه جميعاً إلى القتال فإن ظفرنا فهو المراد، وإلاّ فلن نكون ملومين أمام الخلق”. وقد استشار السلطان العز بن عبد السلام في أمر اللقاء وعدمه فقال لهم: “اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر”. وهذا الرد من العز بن عبد السلام ومن قبله الفتوى مثلين يحتذي بهما العلماء من بعده.
أولى خطوات دفع التتار عن بلاد المسلمين:
خرج قطز بجيشه في رمضان سنة 658 هـ وترك نائباً عنه في مصر، وأمر الأمير ركن الدين بيبرس أن يقود عساكره ليكونوا مقدمة الجيش إلى غزّة، لكي يعرف أخبار التتر، وعندما وصل بيبرس إلى غزة لقي طلائع المغول، واستطاع أن يلحق بهم هزيمة غير حاسمة بيد أنها كانت كافية لدفعهم إلى الرحيل من غزّة، وهكذا سيطرت قوات بيبرس على غزّة، وقد أثبتت هذه المعركة أن الأمن المصري يبدأ في بلاد الشام عامة، وفي فلسطين على نحو خاص، وهو أمر تؤكده التجارب التي مرّت على المنطقة طوال تاريخها.
واستبشر المسلمون عندما بلغهم نبأ انتصار بيبرس على التتار في غزّة وطردهم منها، وكان ذلك فألاً حسناً؛ لأن غزّة كانت أول مدينة إسلامية ينسحب منها التتار مكرهين، وتلقى بيبرس تعليمات باستدراج التتار إلى عين جالوت، فصار يتقدم ويتأخر ويروغ روغان الثعلب حتى ساقهم إلى حتفهم في عين جالوت.
مع إشراقة شمس يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 658هـ كان اللقاء الحاسم بين المسلمين والتتار على عين جالوت بفلسطين بين نابلس وبيسان في الضفة الغربية لنهر الأردن، وكان في قلوب المسلمين وهم عظيم من التتر، وفي صباح يوم المعركة امتلأ الوادي بالجنود والناس الذين كانوا قد توافدوا متطوعين أو للقيام بالخدمات التي يحتاجها الجنود عادة، واتخذ جيش المغول موقعه صوب الجبل، على حين كان جيش المسلمين بقيادة سيف الدين قطز في الوادي، تجمّع الجيش المصري عند مدينة عكا حيث عقد السلطان سيف الدين قطز مؤتمراً حربياً حضره رؤساء الفرق العسكرية لعرض خطة قرار المعركة، ولم ينسَ السلطان قطز أن يلهب حماسة جنوده بخطبته وقد امتلأ الوادي، وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين.
تحيز التتر إلى الجبل، وبدأ القتال بحملة كاسحة للتتار على المسلمين وتلك هي طريقتهم فلم تثبت ميسرة المسلمين وكادت أن تنهار فأردفها الملك المظفر بنفسه وألقى خوذته على الأرض وصاح بصوت جهوري: وا إسلاماه، وتبعه المسلمون، فانجبر الصدع، وثبتت الميسرة والتهبت الحماسة في نفوس الجميع، وصار كل واحد منهم يحاول أن يصنع بطولة بنفسه، واشتد القتال وحمي الوطيس وقاتل الجميع من المسلمين والتتار قتالاً مريراً، وقُتل قائد التتر وانهزم باقيهم ومنح الله ظهورهم للمسلمين يقتلون ويأسرون وأبلى الأمير بيبرس بلاءً حسناً بين يدي السلطان، وانجلت المعركة ذلك اليوم عن نصر ساحق للمسلمين وتراجع التتار نحو بيسان، ثم عادوا وقد نظموا صفوفهم فقاتلهم المسلمون من جديد وصاح المظفر: وا إسلاماه، وتبعه الأمراء والجنود وسط بكاء الفلاحين وتهليلهم وصياح الجند واستبسالهم، وانجلت الجولة الثانية وكانت الأخيرة من المعركة عن نصر مؤزر للمسلمين، وهزيمة نكراء للتتار لأول مرة في تاريخهم، وقتل منهم الآلاف، ولاذ الآخرون بالفرار، فتعقبهم الأمير بيبرس يقتل ويأسر وتخطفهم الفلاحون من كل مكان، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وطار الحمام بأخبار النصر المبين، وكان النصر الحقيقي في هذه المعركة هو مصرع قائد التتار وجزع هولاكو لمقتله وتأسّف عليه وفقد التتار بمقتله قوة لا تعوض، وظهرت في أثناء المعركة بطولات خارقة تذكر بأيام القادسية واليرموك.
فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل قطز عن فرسه، ومرّغ وجهه على الأرض، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى، ثم ركب وأقبل على العسكر وقد امتلأت أيديهم بالغنائم.
وصل خبر هزيمة المغول إلى دمشق يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان سنة 658 هـ وبدأ النواب والولاة الذين كان التتار قد عينوهم لحكم بلاد الشام في الفرار خوفاً من بطش الناس، فامتدت إليهم أيدي أهالي الضياع ونهبوهم، فكانت مدة استيلاء التتر على دمشق سبعة أشهر وعشرة أيام، وغادر السلطان عين جالوت لكثرة الجيف، ونزل في سهل طبرية، وكتب رسالة يبشر الناس في دمشق بالنصر الذي حققه المسلمون على المغول وهزيمتهم أمام بسالة جيشه.
وفي يوم الأربعاء آخر شهر رمضان من تلك السنة وصل السلطان المظفر سيف الدين قطز إلى ضواحي دمشق، حيث عسكر هناك حتى ثاني شوال، فدخل دمشق وأقام بقلعتها.
وهكذا استولى المظفر قطز في غضون عدة أيام على عاصمة الشام واستتب الأمن والنظام بسرعة، وفي غضون أسابيع قليلة تمكن من الاستيلاء على سائر بلاد الشام، حيث أقيمت له الخطبة في مساجد المدن الكبرى حتى حلب ومدن الفرات.
كان انتصار المسلمين بقيادة سيف الدين قطز في عين جالوت بمثابة المسمار الأخير في نعش الوجود المغولي ببلاد الشام من ناحية، كما كان نذير شؤم بالنسبة للوجود الصليبي في هذه البلاد من ناحية أخرى.
إن انتصار قطز في عين جالوت أنقذ العالم الإسلامي من خطر فادح لم يواجه مثله من قبل، ذلك أن المغول إذا استولوا على مصر لم تكن هناك دولة إسلامية كبيرة أخرى يمكن أن تواجههم، وما حدث بالفعل هو أن معركة عين جالوت أسفرت عن هزيمة ساحقة للمغول من ناحية، ومن ناحية أخرى جعلت سلطة المماليك في مصر وبلاد الشام القوة الرئيسية في المنطقة على مدى القرنين التاليين على الأقل، أي حتى ظهور الإمبراطورية العثمانية في القرن الخامس عشر الميلادي.
وفي اليوم السادس والعشرين من شهر شوال توجه قطز بجيشه الظافر صوب مصر وبينما كانت القاهرة تتزين لاستقبال القائد المنتصر، فإن أمراً كان يدبر في الخفاء على يد أبرز قادة جيشه وهو الأمير ركن الدين بيبرس. لقد وصل الأمير بيبرس إلى منـزلة عالية في الدولة بحيث أصبح الرجل الثاني فيها بعد السلطان وصار يضمر السوء لقطز حتى تمكن من قتله في النهاية.
خرج قطز ليسري عن نفسه وهو يمارس هواية الصيد فانفرد عن أصحابه وحرسه وتبعه الأمير بيبرس واصطاد المظفر ولم يدر أنه سيكون هو نفسه أكبر صيد. اجتمعوا عليه من جميع الجهات وضربوه بسيوفهم تم لهم ذلك يوم السبت 16 من ذي القعدة سنة 658هـ وقد اشترك سبعة أمراء في قتله.
وكانت القاهرة قد زُينت لاستقبال الملك المظفر والناس في سعادة وسرور فلما أسفر الصبح وطلع النهار لم يشعر الناس إلا والمنادي ينادي: يا معشر الناس رحمكم الله ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم القاهر ركن الدين بيبرس.
بقي قطز ملقى على الأرض مضرجاً بدمائه، دون أن يجرؤ أحد على دفنه إلى أن دفنه بعض غلمانه وصار قبره يُقصد بالزيارة والدعاء والناس يترحمون عليه ويدعون على قاتليه وكان الملك الظاهر بيبرس قد شارك في قتله فلما بلغه ذلك سيّر من نبشه ونقله إلى غير ذلك المكان وعفى أثره، وهكذا سقط الفارس صريعاً مظلوماً لا يعرف الناس من أمره إلا القليل، وأُسدل الستار عليه، بعد أن سجل اسمه في أنقى وأزكى صفحات التاريخ.المرئيات
ختاماً فإننا نستلهم من قصص هؤلاء الأبطال والعظماء دروساً في الشهامة والبطولة وتحدي المستحيل، فقد حطّم قطز كل أساطير قوّة التتار على صخور عين جالوت، وكسر كبريائهم في تلك المعركة التي سجلت في صفحات التاريخ كإحدى لحظات الأمة الفارقة والتي انتصر فيها الحق على الباطل، ونصر الله جنده نصراً عزيزاً ، وأذل عدوّهم وكسر شوكته ، وأعاد قطز بمعركة عين جالوت عزَ أمة كاد أن يفقد ، ومن هذا نستلهم من هذه المعركة أن الحق منصور مهما جال الباطل وصال .. ومهما قويت شوكته فلابد أن يأتي اليوم الذي يخسر فيه الجولة ، وتقام للحق بإذن الله دولة!
دعوة صادقة للبطل الشهيد بإذن الله جوليان أندري (أبو عبدالله البلجيكي)
رحمه الله رحمة واسعة صاحب فكرة هذه السلسلة
الشكر موصول لشباب المركز الإسلامي في بلجيكا جزاهم الله خيراً
وللأخت مصممة الفواصل ليـان .. جزاها الله كل خير